القرآن – الكتاب المعجزة

منذ عهدٍ قريبٍ لا يتجاوز السنة، كانت الانطلاقة نحو الدراسة الذاتية وطلب العلم، وارتأيتُ الفلسفة بابًا أدخل منه بحثًا عن إجابة شافية للسؤال الوجودي الكبير الذي صرتُ أحيا لأجله منذ رحيلها:
إلى أين يا أمي؟
بدأت باقتناء الكتب بجنون، فمنها ما اشتريتها من المكتبات، ومنها من معرض للكتاب، ومنها ما أتتني من طلبياتٍ من مصر والكويت والسعودية، بل حتى من النمسا، مجموعة كتبٍ أثرية كزينة للدار، وبدأت أطالع بكثافةٍ لحد الإرهاق. والكتاب لا أنتهي منه إلا في أيام، بل منها في أسابيع، فمع كل أسطرٍ معدوداتٍ أُغلقه متوجهًا إلى ديب سيك وأخوته الأذكياء، والويكيبيديا، ومن ثم جوجل، بحثًا عن تفصيل المعلومة التي قرأتها للتو أتدارسها.
صرت أُدوِّن المعلومات والأفكار المولودة من تأملاتي في الوجود بإفراط، لحد أني دونت في ثمانية أشهر ملاحظاتٍ تجاوز عدد كلماتها التسعين ألفًا. وتقريبًا للمقدار إلى التصور أقول إن كتابي اليتيم المطبوع لمجموعتي القصصية ذات المائة والستين صفحة، كُتِب بأكثر من الثلاثين ألف كلمة بالشيء اليسير. أي ما تضاهيها الملاحظات بثلاثة أضعاف من أمثالها، وما زالت تنتظر المراجعة والتنقيح، فإما الاعتماد وإما الحذف لما لزم منها الإعتماد والحذف.

من أهم الملحوظات المنتهية لحد الآن بابٌ أسميته “سحر الضاد وقصورها”، مشيرًا إلى أعجوبة اللغة العربية وما تحويها من كنوز وسحر، مع دراسة لقصورها كباقي اللغات القاصرة عن التعبير المطلق للشعور والوصف. مثال ذلك ما جاء في قصةٍ من قصصي التي ذكر بطلها لزوجته أنه يحبها، ويحب النساء، ويحب شوربة الفاصولياء، والتدخين على المرحاض. فاستعار بالكلمة الواحدة للتعبير عن أربعة مشاعر لا مشترك بينها ولا رابط سوى القالب الذي نبع منها تلك المشاعر، النفس البشرية. تلك النفس التي تُرك لها أمر فهم الشعور سياقًا، لا تجريدًا. أي ضمن سياق الكلام، لا كحالة كلاميةٍ مجردة في الكلمة.

وأظن أن من علَّمنا الأسماء كلها، خالقًا للوجود الذي أبحث عن تمييز حقيقته من السراب، اطمئنانًا للقلب وسلامًا للأعماق، أراد لنا تعمدًا الحجر عن الكلمات المطلقة وحبسها عنا، أي فقرنا فعجزنا عن التعبير عن حبي للوطن بكلمة غير التي أصف بها حبي لرائحة الياسمين. التعمد في ذلك كي يكون السؤال الوجودي العظيم: “لماذا نحن هنا؟” من حصة كل فردٍ يبحث عن الصورة لوحده بمجهوده الخاص، لا أن يأتي ضليع لغة جبار في مخزونه من الكلمات اللامحدودة حال الامتلاك. حينها لتمكَّن من تصوير الحقيقة أمام الأعين قبل إسماعها داخل الأذن، ولصرنا نراها رأي العين ونرى نور الله بين السطور.

تخيل أنك تهب كاتبين اثنين كلماتٍ وتطلب منهما كتابة أسطرٍ خمسة نثرًا ليصفا لك قدح ماءٍ ملونٍ مزخرف. أحدهما كاتب مبتدئ، والآخر من جهابذة اللغة وفطاحلها. وأعطيتَ المبتدئ ألف كلمةٍ يختار منها ما يختار، وأما الفطحل فمائة. بمن سيُعجب من يُتلى عليه المكتوب ممن لم يرَ القدح؟ بلا شك سينهزم الجهبذ ويفوز المغمور. فالتعبير بالكلام بمفرداتٍ أكثر يخلق وصفًا أدق وأشمل. لا أعني البلاغة، لأن الآخر سيتفوق بلا ريب، ولكن صاحبنا المنتصر سيوصل الفكرة بإبهار. فلو حُجِرت عن أمهر الكُتّاب وأفصحهم كلمة “شروق”، وطُلِب منك وصف الصباح بلا حَجْر لها، ومهما كنت مبتدئًا، فالصورة ستظهر أجلى وأوضح حين يرسم عقل المتلقي الشمس وهي تشرق بين كلماتك، وقت وقوف الماهر الفصيح عاجز عن الإبهار بوصف طلوع الشمس من المشرق.

مضى العمر وأنا أسأل دائمًا عن وجه الإعجاز في القرآن، ذلك الكتاب العربي، المكتوب بلغةٍ أوصفتها في الباب الذي تحدثت عنه آنفًا بـ”صاحبة الجلالة”، لما لها من ملكٍ وسلطانٍ عظيمين، غير أنها رغم ذلك قاصرة عن المطلق في التعبير ما دمنا بحاجةٍ للالتفاف حول الكلمة لإيصال المقصود. وهذا ما يطول ذكره هنا، فأكتفي بما ذكرت. وحال العربية حال كل اللغات في ذلك القصور، فها هي لغتي الكردية الجميلة، أُعبِّر بمفردة واحدة، بالضبط كالعربية، عن حبي للوطن بنفس الكلمة التي أصف بها حبي لرائحة الياسمين، وكذلك لغة بلدي الثاني ألمانيا الحبيبة، وكذلك الإنجليزية التي أتمكن من اليسير جدًا مما تعلمتُ أيام دراستي إياها حين كنت طالبًا مدرسيًّا.

لم أتوصل لأي إجابة شافية عن وجه الإعجاز في القرآن، وما قيل عن الآيات التي ظهرت دقتها لاحقًا، فالبحران اللذان مرجا يلتقيان ولا يبغيان لما بينهما من برزخ، شككت فيها رغم ما فيها من غرابةٍ لما تم اكتشافه لاحقًا، فعزوت ذلك إلى بحَّار جاء بالخبر، رآه فأعطاه لمحمدٍ عليه السلام. وغيرها من الآيات التي وردت من غيبياتٍ لا مقدور للعين من رؤيتها، فظل القرآن وإعجازه لغزًا لي لم أفهمه.

إلى أن جاء يوم الانطلاقة في التبحر في العلم وطلب المعرفة، فمن عميق الدراسة والغوص في بطون أمهات الكتب، وبعد التأمل بتعمقٍ لا أمتلك مفردة بأي لغةٍ لوصف التعمق روحًا في الكلام قبل النظر إليه بالعين، تيقنت أن القرآن محال أن يكون من كلام البشر، فإنه لن ترى وأنت تتلوه تذبذبًا في الشعور والإحساس من أول كلمة أنزلت على محمدٍ عليه السلام – “اقرأ” – وقت أن كان أربعينيًّا من العمر، وإلى آخر آية نزلت عليه في خطبة الوداع – اليوم أكملت– وله من العمر سبعٌ وستون سنة توفي من بعدها. فأين هي الرحمة، والسكينة، والغضب، والحزن، والانكسار، والفرح، والكبرياء، والعزة، وكل ما دونها أو ما فوقها من مشاعر مرّت على محمدٍ الإنسان من نفسه البشرية في القرآن؟ كيف ظل ذلك الإنسان يتلو كلامًا في النصر بإحساسٍ هو هو الإحساس ذاته عند الهزيمة؟ أين الحزن حين مات وحيده إبراهيم من الآيات التي نزلت بتلك الأوان؟ حين قُتل أمام عينيه صحابته نصرةً له؟ حين انتصر ببدر، وانكسر في أحد؟ حين نزفت ساقه هربًا من أبناء عمومته يلاحقوه، فرحم به الفتى النصراني الذي قدم له العنب؟ أين النفس البشرية من هذا العلو والسمو أمام ذلك التقهقر والإحباط كي تغيب التموجات في الكلام وتسير بخط مستقيم دون عِوَج؟
أن تظل تكتب في كتابٍ لسبعة عشر عامًا بنفس النَسَق، ونفس الاستقامة على خط غير ذي منحنى، لهو أمرٌ محال، ولا يأتي بالمقدور ذاك من بشر. فلو قرأتَ لعظماء القلم من أبناء الكوكب، أمثال دوستويفسكي وتولستوي وأقرانهما، لن تجد في أواخر أعمالهم إلا وتغيرت فيها النظرة عن أوائلها. مثال ذلك طغيان السوداوية عند دوستويفسكي في أعماله المتأخرة التي خفَّت عنها في البدايات.

اترك كل كتابٍ بين يديك، واقرأ القرآن من بدايته لآخره، وتَمعَّن في أي اختلافٍ للروح فيه، في نسَقٍ عند موضع، اختلف نَسَقه عند موضع آخر بظرف غيره، واسأل نفسك: كيف توازن آدميٌّ في الكتابة بأسلوب لم يتغير لموت وحيده؟ ولو بآية قد بان فيها الحزن والانكسار؟ بل حتى في الناسخ والمنسوخ دلالة إثبات لما أذهب إليه، فالناسخ الذي جاء في زمنٍ ما، تبعه منسوخٌ بزمن غيره لتغيير الظروف، فأين هو التغيير في رَوح الكلام وتقلب الأمزجة من تغيير الظروف تلك؟

أن تكره الإسلام بكتابه، هذا شأن يخصك، ولكن أن تمنع عن باصرتك الشمس بالغربال، فهو جنون. اقرأ القرآن بتدبّر لروح الكلام فيه ووقعه على النفس، ودوِّن على قصاصة كل إحساس شعرتَ فيه قد تغير، وراجعه بعد الانتهاء، سترى أن الحكم تغير في مواضع، وقت أن ثبت النَسَق، كي تُثبت لك روح الكلام عن أعجوبة الثبات فيه رغم تقدم الزمن به، والإعجاز الذي ينهار أمامه أعظم قلم، لتعلم أن الكلام لم يُكتب بقلمٍ ذي نفس في زمن ما، بل هو كلامٌ متعالي على كل الأزمان لذات علَّية.

نشوان عادل
نورنبرغ ٢٣ /٠٣/ ٢٠٢٥

اترك تعليقاً