رسائل إلى يارناز ٤١ – الرحلة الفلسفية

إبنتي يارناز،

من تبجيلي لجدتك حباً بها، كنت دائمًا، وما زلت، أذكر بأن من بعد الله تأتي أمي دونه، ومن دونها الطوفان. فوالذي نفس ابنها بيده، لولا إيماني بالذات الإلهية، أو كنت على إلحاد، أو شكاك في وجوده على الأقل، لتمردت على الآلهة على ملأ، ولاتخذت من أمي إلهة منوطًا بها الرزق والمصير، بكل وثوق لا يشوبه أدنى شك من حقيقة، فعلًا أفعل لا مجرد قولاً أقول أو شعوراً أشعر؛ ولكنت قد شرعت شريعة تخصها دون العالمين لعباداتها وطاعاتها، وكيفية الصلاة لها. ولكان من جملة الشرائع والصلوات في ديني السجود لها في حضرتها أمام قدميها في اليوم خمساً، ولكان الركن الأعظم طوافاً حول قامتها في العام مرتين، عند بدء العام وفي منتصفه، كعبة منها أتخذها مشرفة، وللبست في حضرتها الإحرام؛ ولكان التهاون في ذلك من الموبقات المهلكات من الكبائر الناسفة لأركان الإيمان، ينال بها مني الكفر موجب النار، ولكنت أحرص الناس على أن أتقي نارها على ما كانت عليه من برد وسلام.

غير أن الذات العلية للعلة الأولى، الحاضرة في الذات الإلهية جل علاه، كانت وكائنة وستكون أبدًا معبودة مسجود لها في عليائها مني. فلولا رؤيتي إياها ساجدة له لشككت فيه وآمنت بها. فبها تعرفت عليه فعبدته حباً فيه لا خوفاً منه.

حبيبتي يارناز،
في رسالتي السابقة قبل هذه كتبت لك عن النظرة الأغلى، تلك النظرة وقود حياتي التي تدفعني إلى أمام كلما تقاعست أو تكاسلت، هي سر ما أنا ذاهب إليه منذ أشهر معدودات في رحلة فلسفية عميقة باحثاً عن الحقيقة التي تكمن وراء تلك النظرة؟ تلك النظرة التي صرخت معها باعماقي المتألمة صامتا لا يسمعني أحد، صارخاً بالسؤال العظيم:
إلى أين يا أمي؟
بعد تلك النظرة التي لم تفتح لها عيناً من بعدها أبداً، انتابني شعور غريب جداً، ما زلت عاجزاً التعبير عنه. وإنني قد أخمن بالعشر سنين من دراسة وغوص باعماق إمهات الكتب الفلسفية، لعلي أتمكن من بعد السنين تلك أن أتمكن من التعبير عن ذلك الشعور الذي أعيشه. شعور أرى لزاماً علي أخلاقيا وأدبياً من إيصاله للغير باي شكل، والشكل الأمثل الذي أراه هو الخط والتدوين في كتاب ربما سأنتهي منه بعد عشر سنين من تاريخ هذه الرسالة، على أقصى حد من تفاؤل، أو ربما نصف الفترة في خمس منها إن صرت خارقاً في الفهم والتعبير الذي أعنيه.

أكتب لك يا روح الروح رسالتي هذه، كي أخبرك عن جدوى تضييع سنين من جهد مبذول، في طلب العلم لمجرد الكلام. فالكتاب المخطط له عمراً بالعشر سنين ماهو سوى مجرد كلام. فحتى الفلسفة منذ قديم التاريخ ابتداءً من زمن طاليس وأنكسماندر ومروراً بسقراط وتلامذته، عبوراً خلال التاريخ فوصولاً إلى هيجل وهايدغر، ما كان شغلهم الشاغل سوى مجرد كلام. ولكن أي كلام هذا وأي فائدة منه ترتجى؟
ركن الكلام الأهم الذي يبنى عليه الهيكل الفكري الآدمي، هو الإجابة على السؤال الأهم عبر التاريخ الإنساني، لماذا؟ ومن أين وإلى أين؟ وبدوره عن الجدوى من الفلسفة على مر التاريخ. فمن المفترض سطحياً أن لا يكون الكلام ذاك إلا هراء، ما دمنا قد أتينا للوجود وحضرناه، فما الداعي ان نعرف سره ومصدره ونتكلم عنه؟

إن السر وراء الفلسفة وعلم الكلام والتبحر فيه عبر التاريخ واستمراريتها، يكمن في باب معرفة النقيض بالنقيض. فلولا عتمه الليل لما تعرفنا على نور الصباح، ولو لا الجمال الأخاذ بالالباب لما أدركنا القبح المنفّر. ومن أجل هذا ولأن لا احد ممن رحلوا قد رجع من الموت يخبرنا بما بعده، وكي نطمئن على مستقرنا الأخير هناك فيهدأ روعنا وقلقنا هنا حيث نحن على تلك النقطة اللامتناهية الصغر في هذا الكون الفسيح، يتوجه الإنسان إلى البحث عن الوجود كي يتعرف على اللاوجود موتاً، مادام الوجود هو نقيضه، فبالنقيض وحده يُعرف النقيض، وبذلك نتمكن من التعرف على شكل المصير والمآل الذي ينتظرنا هناك حيث اللانهاية.

فلكي نطلّع على ما بعد الموت، علينا أن نطّلع من هذا المنطلق على نقيضه المتجسد بما قبل الحياة، وبصرف النظر عن أيهما، فعلى الإنسان الاطلاع على هذا كي يفهم ذاك أو العكس. فلكي يفهم المصير والمآل عليه فهم المصدر والكينونة، والذي هو مصدر مابينهما الآن. ولأن ماقبل الحياة ومابعد الموت طلسمان غامضان، فانه لا يهم فهم أيهما قبلاً كي يفهم الآخر. فبفهم هذا يُفهم ذاك، ولكي نتمكن من فك الطلسم الغامض لمابعد الموت، علينا فهم وجودنا هذا من حيث المصدر والكينونة، كي نفهم النقيض القادم المخيف. كل ذلك كي ينقشع القلق المزمن، فنحيا بحرية فكر وطمأنينة. وهذا مجهود جبار يتطلب للكثير من الكلام، الكثير جداً. وهذا هو الشغل الشاغل للفيلسوف، وما حرفته اللغوية إلا حرفة أشد مهنية وأدق صنعة من اغلب الحرف، فالفيلسوف كالصيدلاني وطبيب الأعشاب الصانع للترياق، فمعرفة المابعد هي حبة باراسيتامول مسكنة للألم المصاحب لقلق الموت والفناء. وهو عالم طب روحاني صانع للكلام كعالم الطب المادي الصانع للباراسيتامول. فمن دون كلامه لن يسكن الألم الروحي، بالضبط كانعدام الباراسيتامول المسكن للألم الجسدي.

فهم الحياة وأسباب الوجود والمصير المنتظر مابعد الموت خلال الفلسفة ليس بالمجهود السطحي، بل هو جهد هائل جبار يجني المرء منه بأن بستشعر معنى الحياة ويستطعمها. ولكي تتصوري مقصدي اخبرك بأغرب شعور مر علي في حياتي، وهو أنني ذات صباح ببدايات رحلتي الفلسفية، انتابني شعور لا مقدور لي من وصفه، وهو أنني أول ما استيقظت من منامي لحظة فتحي لجفوني، وأول ما شاهدت نور الصباح، مرت على روحي نسمة سعادة غامرة كوني تمكنت من الاستيقاظ ونلت يوماً جديداً في الحباة مازال بامكاني الاستمتاع بها. غرابة الأمر تكمن في نقطتين، أولها ذلك الصباح كان بعد أشهر ثلاث فقط أو زهاء ذلك من وفاة أمي، أمي التي كنت أتخيل وفاتها نهاية الحياة بالنسبة لي، فكيف أشعر بسعادة الآن؟ والنقطة الثانية هو كيف تتحول الدنيا هذه من بعد كآبة وتأفف منها وكراهية شديدة لها، لدرجة عتابي الدائم من أمي أيام كانت تحيا بيننا على إنجابها لي وأنا أصغر أخوتي السبعة، حينما كنت أقول لها بالحرف: ألم يكن سبعة أطفال كفاية؟ لم أنجبتيني؟ ومن هذا المنطلق تأخر قدومك حبيبتي لأنني لم أرغب في جلب طفل بريء لهذه الحياة القاسية. فالغرابة ها هنا، كيف لشخص بهذه النظرة يتغير ليفرح بفتح عينه على نور صباح جديد في الحياة كي يشق الطريق في شعابها ذات الأرض القاسية ممشاه، والتي بقيت هي نفسها كما هي لم تتغير بوفاة أمه، بل الأمر كل مكمنه في أنه هو الذي تغير بهذا الشكل الدراماتيكي.
ومثال اختتم به هو أنني لو شرحت لك عن شكل رجل يقف خارج محل تواجدنا عبر النافذة، حيث لا ترينه لزاوية جلوسك البعيدة عنها، أشرح لك بأنه يلبس قميصاً مقلماً بخطوط عمودية برتقالية، مع بنطال رصاصي، يبدو على ملامح وجهه شقوق الزمن وخدوش الحزن يظهران جلياً على محياه بالحزن العميق الذي يعانيه. ستتمكنين بلا شك من رسم صورة له قريبة من الواقع، وهذا ما تفعلها الفلسفة التي تحاول من رسم صورة لماهية الحياة والموت وما بعدهما، غير أن الصورة لن تصل بذلك الوضوح كتلك التي ستتوضح لديك صورة الرجل إذا قمتِ من مكانك وأتيت للنافذة تنظرين إليه بعينك. فمدى قرب الصورة المرسومة في مخيلتك من الصورة الحقيقية للرجل بعد أن تشاهديه، يتأثر بمدى البراعة مني في الوصف ورصانة اللغة، كي أعطيك دقة وصف اللون من حيث درجة شدته من خموله، ودقة عرض الخطوط من سمكها، أواعطاء رقم تقريبي للخطوط تلك، غير مكتف بعموديتها من الأفقية، ومدى وصفي لنحافة الرجل من سمنته، وكل الأوصاف بشكل مفصل كلون الشعر وشيبه وغير ذلك ما يتغير الشكل النهائي بكل تأكيد. فلقد قررت في ركب الرحلة الفلسفية هذه كي أتمكن من مشاهدة الرجل الواقف بعيني لا كما قيل لي من سبقوني رؤيته، كي أطلع على الحقيقة المبحوث عنها متذ الأزل.

فكانت الفلسفة التي جعلتني أسير على الغيوم أتنعم بصفاء السماء والشمس في عنقها بازغة لا تغيب. إنها الفلسفة التي أدركت بها أن مجرد وجودي في ركب المخلوقات لهو لأمر عظيم، لا تقل العظمة تلك عن عظمة الكون الفسيح، فأنا كمخلوق، كونٌ بحالي، كالكون الذي يستوعبني، بل أعلى وأعظم. إنها عظمة الخلق التي أدركتها بعد الرحلة الفلسفية التي أوضحت معالم الصورة وكأن بصيرة أتت بي إلى النافذة أرى شكل الحياة الواقفة قرب الشباك، فتنعمت بالرؤية حقاً. فاليك بالفلسفة حبيبتي ولو مطالعة، فهي ملح الحياة اللذيذة وترياق الإنسان السعيد.

والدك – منتظراً كتباً على الطريق زاداً للرحلة

اترك تعليقاً