اللغة العربية هي ليست مجرد لغة ينطق بها البعض من البشر المحظوظين، بل هي هبة من السماء وعطية دون حساب، هي سحر بها يتجلى عظمة الواهب ومقدرته وعظمته، هي زينة في جنان الأرض كزينة النجوم في عتمة السماء.
فغالب ظني أني لم أسمى من قبل أبي بنشوانٍ من قبيل المصادفة على ما يبدو، فلربما القدر كان قد سار به صوب هذا الاتجاه، معرفةً منه أن خير ما أوصف به عند قلب صفحات البلاغة العربية، هو أن أصير نشوانا، وكأني أستقي من خمر العربية بكؤوسها الملكية فأنتشى أيما نشوة.
أهل اللغة ودارسوها لن يأخذوا كلامي بذلك القدر من الاهتمام كغيرهم، كونهم متمرسين على ما أرغبُ في الذهاب إليه الآن، غير أنها كانت من أكبر العقبات الفكرية التي واجهتها في الأيام الأولى من رحلتي الفلسفية والتبحر في دراستها، عندما اصطدمتُ في موضع الآية القرآنية التي ورد فيه كلمة “زوج” من قصةِ الخلق، فبَانَ بها أن من كل شيء مخلوق زوجين اثنين. فبها تغيّر المزاج من حالٍ إلى حالٍ، بمقدارٍ جعل زوجتي تسألني يوماً قائلة:
ما بك يا رجل منذ الأمس مغبر وجهكَ محزون؟
لقد انتبهَت أن هناك خطبًا ما يؤرقني ويقض مضجعي، فضاقت له عليَّ الأرض بما رحبت. لست أعني بذلك الضيق الجهل بالتجنس أذَكرٌ هو الزوج ذاك أم مؤنث، رغم انطباع الجهل بداخلي فاطلعت فقط وقتها من بعد بحث إلى أن الزوج هو ضعف الفرد أو خلافه، وليس تذكيره من تأنيثه، بل الكدر الذي أصبت به ليوم أو زهاء ذلك كانت مسألة “البراميسيوم” أحادي الخلية، وذلك شرح آخر في فصل منفصل سأتطرق إليه لاحقاً. إلى أن اطلعتُ على تفسيرٍ لأحدهم، حين أتى بقصة النبي زكريا مع امرأته التي اختار لفظة “امرأته” في مواضعَ عدةٍ من القرآن، كي يستخدم لفظة “زوج” في موضعٍ واحدٍ منه. وهذا ما دعاني إلى التأملِ في علةِ وضعِ اللفظِ في موضعٍ دونَ غيرِه.
فالباحث عن الحقيقة المجد المجتهد لا يأخذ بالكلمة محمل الجد فحسب أو حرفه، بل التشكيل الذي يتشكل به الحرف ذاك، ولأنني ما كنت مجداً في أمر من قبل في حياتي كجد بحثي هذا، ولأنني اجتهد أشد الاجتهاد للوصول إلى تلك الحقيقة بصرف النظر عن إصابتي من خطأي، أخذت التفسيرُ اللغويُّ الذي يبينُ به عظمةَ اللغةِ العربيةِ، ودقةَ التموضعِ اللفظيِّ فيه على أقصى درجات الاهتمام، والا فلا أنا باحث ولا ما افعله ببحث، بل ليكون أقرب منه إلى مضيعة الوقت من البحث وهدرا للمجهود المبذول. ومن جملة ما تتلمذت على يد اساتذة في الانترنت أخذت بعلمهم من مصادر موثوق بها، تعلمت في اللغة أنه يطلق على الزوجينِ لفظتي المرأة والبعل غيرِ المتكافئينِ في المقدارِ، كغنىً احدهما مقترنًا بفقرِ الآخرِ، أو رفعةِ نسبِ أحدهما وقتَ انتسابِ الآخرِ للعوامِ، وغيرها من عدم تكافؤ، وقتئذٍ تستخدمُ لفظةُ المرأةِ والبعلِ دونَ الزوجِ. فعندما كانتِ امرأةُ النبيِّ زكريا عاقرًا لا تنجب وقتَ فحولته التي لا تعيقه من الإنجاب بشيء، أتى القرآنُ بلفظةِ “امرأته” لعدمِ التوافقِ بينهما في المقدرة، وبعدَ أن استُجيبَ دعاؤه وحبلتْ منه اُستخدِمَتْ لفظةَ “زوجه” لاستوائهما في المقدرة على الإنجاب.
من هذا الباب أدركتُ بأنَّ رحلتي الفلسفيةَ لن يشتد أزرها، ولن تكتملَ دعائم بنيانها ولا أركانه دون يدٍ متينةٍ تأخذُ بيدي وأنا أغرقُ في يمِّ اللغةِ الواسع الشاسع، فاقتنيتُ من جملةِ ما اقتنيتُ من كتبٍ، كتبَ تثري لغتي الفقيرة، وتهبني نوعاً مقبولاً من الفصاحة وقدراً يسيراً من البلاغة، ما يمكنني من فهم ما وراء الكلمة وشرحها، ككتاب “العبقريات” للمطالعة دون الدرس للبليغ في لغته عباس العقادِ الذي انبهرتُ بأسلوبه انبهارَ الطفلِ برؤيته النجومِ وهي تتلألأُ ليلاً لأولِ مرةٍ، وكتبًا لفطاحلِ اللغةِ من الأقدمينَ السابقينَ، ككتابِ “أدبياتِ اللغةِ العربية” والذي كانَ مقرّرًا دراسيًّا بزمنه لتلاميذِ الثانويةِ بقرارٍ من نظارةِ المعارفِ العموميةِ بمصرَ الطبعةِ الثانيةِ، طبعةَ ١٩٠٩ ميلادي، من المطبعةِ الأميريةِ بالقاهرةِ، وكتابِ “المنتخبِ من أدبِ العرب” الجزءِ الرابعِ للسنةِ الثانويةِ الرابعةِ، طبعةَ ١٩٤٤ ميلادي لكوكبةٍ من نجومِ لامعةٍ في سماءِ البلاغةِ، وكتابِ “الألفاظِ الكتابية” لعبدالرحمنِ بنِ عيسى الهمذانيّ، الذي كانَ من أئمةِ اللغةِ والنحوِ في زمنه بالعصرِ العباسيِّ، وكتابِ تهافتِ التهافتِ لابنِ رشدٍ، لأضربَ به عصفورينِ بحجرٍ، فمنهُ اطلْع على ردِّهِ على الإمامِ الغزاليِّ لما ذهبَ إليهِ الثانيُّ من حربهِ على مذهبِ الفلاسفةِ المسلمينَ المشائينَ، الذينَ تبنّوا الفلسفةَ اليونانيةَ في كتابهِ تهافتِ الفلاسفةِ، ومنهُ أنتقي لنفسي دررًا منَ الألفاظِ التي تشتهيها نفسي الجائعة للبلاغة فاستمتع بمطالعتهِ منتشياً بالارتواء من عطش الكلام، كذلكَ رسائلِ الكنديِّ الفلسفيةِ للسببينِ عينهما. وغيرها من كتب وروايات لكبار الأدباء العرب بالإضافةِ إلى مسكِ الختامِ في الاقتناءِ، مع الكتابِ الأحبِّ إلى قلبي على الإطلاقِ، والأقربِ إلى الفؤادِ، كونهُ يعيدني إلى طفولتي بدارِ أبي الذي كانتْ له فيه نسخةٌ منهُ حديثةٌ وقتَها متوافرةٌ لدينا، تأثرتُ بهِ وقت طفولتي بالألفاظِ الوفيرة التي تهب المعنى أيما تأثيرٍ، إنهُ كتابُ “مختارِ الصحاح” للشيخِ الإمامِ محمدِ الرازيّ، طبعةُ ١٩٢٥ منَ المطبعةِ الأميريةِ بالقاهرةِ بقرارٍ منَ وزارةِ المعارفِ العموميةِ لعامِ ١٩٠٤ وعلى نفقتها الخاصةِ واستعمالهِ في المدارسِ الأميريةِ، كي يكون مرجعي في الالفاظ المستعصية فهمها.
فعلتُ ذلكَ لأفهمَ الكلامَ المكتوبَ منْ قِبلِ فلاسفةٍ جاؤوا في أزمانٍ، كانَ إتقانُ اللغةِ فيها بديهيًّا، لدرجةِ استعمالِهمْ ألفاظًا وتركيبِهمْ جملاً رفيعةَ المستوى، صعبَ الوصولِ إلى المرادِ المختبئِ ما بعدَ الحرفِ والتشكيلِ فيها دون لغة متينة. فرأيتُ لزامًا دراسةَ اللغةِ لأصيرَ ملمًا بالمعنى المقصودِ لما وراءَ الكلمةِ الفلسفيةِ المنطوقةِ فاتقنها وأتقنَ المغزىَ الذي بهِ تتفتحُ مداركي وتتسعُ مداها.
مصطلحاتُ تفتقرُ إليها كلُّ اللغاتِ، الفرقُ بين لغةٍ وأخرىَ هي أن هذهِ أغنىُ وأثرىُ من قرينتها، وإني لأرى أنَّ أكثرَ اللغاتِ ثراءًا بالتعابيرِ والألفاظِ الدقيقةِ هي اللغةُ العربيةُ سيدةُ كلِّ اللغاتِ. جدير ذكره أن أغلبُ بني العربِ يفتقرونَ للذائقةِ اللذيذةِ تلكَ التي أمتلكها أنا، كونَهمْ لا يجيدونَ غيرَها من لغة كي يقارنوا بما يمتلكونهُ معَ ما لا يمتلكونهُ، فهم محرومون من هذا الفضل العظيم الذي اتمتع به كما أفعل أنا، حين أقارن فخامة اللغة العربية أمام اللغات الثلاث التي اتقنها، لغتي الأم الكردية، ولغة المواطنة الألمانية، ولغة الدراسة الانجليزية. لذلكَ فأغلبُ من تأثرَ بجمال اللغة العربية وسحرها همُ غيرُ العربِ، ممنْ يجيدونها ويتقنونها، كإجادة طباخ ماهر يشتغل رئيسا للطهاة في مطبخ ملكي، حين يحضر الطبق بنكهة لا يحضرها طهاة المطبخ ممن معه، على الرغم من استعمال كلاهما لنفس المقادير، لنفس البضاعة الداخلة في الجدر نفسه، لليوم نفسه، للوجبة نفسها. مثالُ ذلكَ شخصيُّ الفقيرِ للغة أنا الكردي أبًا عنْ جدٍّ، لا أنطقُ في يوميّ إلا باللغةِ الكردية الحبيبةِ الجميلة الثرية، وهذا ما يجعلني أن أتأكدُ من تلكَ العظمةِ وتلكَ السلطنةِ وذاكَ الجاهِ والعزِّ المالكة لها صاحبة الجلالة اللغةِ العربيةِ، كوني ألاحظ الفرق هذا الذي لا يلاحظه العربي. لذلك فاغلب الجهلة المحاربين للقرآن تجدهم عرباً من أبناء لغة القرآن نفسه، وسبب ذلك افتقارهم إلى النقيض الذي به يعرف كل شيء. فبالأبيض ندرك جمال الاسود وبالنهار ندرك نعمة الليل، وباللغات الأعجمية تدرك عظمة اللغة العربية.
من بابِ اللغةِ الواسع ببحوره اللامحدودة بحد، وبألغازه العديدة، أتأكدُ بأنَّ هنالكَ غيبًا غيرَ موصولٍ، وحقيقةً غيرَ جليةٍ، وغموضاً غير موضوح، تحجبُ عنِ الإنسانِ الطلاقةَ المطلقةَ في اللسانِ، وتعمّدُ لهُ منْ بنيانِ لغتهِ الفقرَ في بعضِ الزوايا والأركانِ. وهذهِ المسألةُ هي إحدى الإشاراتِ الظاهرةِ إلى تواجدِ قوةٍ ما وراءَ الطبيعةِ -بغضِّ النظرِ عنْ ذاتِها إلهيةٌ كانتْ أمْ دونَ ذلكَ- لا تريدُنا أنْ نعبّرَ عنِ الشيءِ بالدقةِ التي ستوصلُنا حالَ تواجدِها إلى الكمالِ في التعبيرِ، فنوصلَ الرسالةَ إلى العقولِ بالجملةِ وغيرِ الخبيرةِ بالأخذِ والعطاءِ بالخصوصِ، فتطلعُ على الغيبِ بالبصيرةِ التي ستتخطّى حدودَ آفاقِنا غيرِ البعيدةِ عنْ مرمى نظرِنا ببعدٍ سحيقٍ. وهذا ما أراهُ منْ غيبياتِها التي لا تريدُ لنا الكمالَ في الكلامِ، فوصولُ الإيمانِ بالمنطقِ المعبّرِ عنهُ كاملاً إلى كلِّ إنسانٍ، بلْ أبقتْ لهُ منْ بذلِ الجهدِ مسعًا لتحقيقِ مبتغاهُ عندما يطلعُ ببصيرتهِ التي سيكونُ قدْ تعرّفَ على تلكَ القوةِ دونَ جهدٍ مبذولٍ، وهذا ما أذهبُ إليهِ منْ مسألةِ الغموضِ على مرِّ الأزمانِ فعدمِ الوصولِ إلى المطلقِ بالمطلقِ. وأظنُّهُ يشاءُ لنا منْ أمرٍ لا ندركهُ.
ما يزيدني ثقة بمعتقدي هذا هو وفاة بعضاً من عظام الفلاسفة مبكرين، مثل العظيم الألماني نتشه الذي فقد عقله في الرابعة والاربعين لتنتهي مسيرة عطائه. والدانماركي سورين كيركيجارد الذي توفي في الثانية والاربعين، والتشيكي فرانس كافكا الذي مات في الاربعين، والكثير من رفاقه في الأعالي من صفوة الصفوة، ممن كانوا سيجعلوننا ببراعة تعبيرهم وغزارة فكرهم لولم يكن كذلك أن نرى الإله بالعين المجردة كرؤيتنا للشمس في عنق السماء. ولكن رافع السماء تلك لم يشأ لهم من تجاوز السماء ببراعتهم كي يفتحوا أبوابها لنا فنراه بالعين قبل العقل. ولكنه قد حدد للوصول اليه التعب والشقاء في طريق وعر للبحث عن الحقيقة. فمن وصل على مشقة الطريق سعد، ومن لم يتحمل العناء ذاك شقى.
دليلُ مذهبيِّ هذا هو افتقارُ اللغة العربيةِ بجلالةِ قدرِها وعظمة سلطانها إلى الكمالِ، ما يتسبّبُ الفقرُ إلى عدمِ تمكّنِ فطاحلِ اللغةِ وعظماءِ الفلسفةِ وصفوةِ الأتقياءِ ونوابغِ الشعراءِ وكلِّ نفرٍ منْ على شاكلتِهمُ البهيةِ، وقرناءِ علومِهمُ الثريةِ، ممّنْ يتقنونَ فنَّ الكلامِ وسحرَ البيانِ، على التعبيرِ المطلقِ للوصولِ إلى المطلقِ، فإيمانُ أهلِ الأرضِ بذلكَ أجمعينَ، وهذا هو اللامطلوبُ منْ ذاتِهِ الإلهيةِ على ما أظنُّ، كي يكونَ كلُّ ابنِ آدمٍ مسؤولاً عنْ نفسهِ منْ إيمانهِ بهِ، فلا يلقي الإنسانُ في محاكمتهِ اللومَ على الكلامِ والبلاغةِ والفصاحةِ بشيءٍ. فإن كان الإله الذي نعرفه قد عرفناه بما نقله السلف لنا نحن الخلف بالكلام يوصفونه، كيف كنا نؤمن به حال الفصاحة التامة والبراعة المطلقة في الكلام والتعبير؟ فكم من انطباع تغير بكلام مسموع عن حدث أو غرض لمجرد اتقان التعبير وتغيير اسلوب الكلام وانتقاء الألفاظ؟ فكم من ملاحدة آمنوا بكلمة، وكم من معتنق لدين ألحد بكلمة، وكم من أدباء غيروا مسارات حروب ونشروا سلاماً بما تضمنها جنبات كتبهم من كلمات؟ وليس ببعيد من الآن، حيث نرى كيف أوربا وصلت لما وصلت إليها بهذا القدر القليل من السنوات، من بعد انتهاء الحرب العالمية التي أحرقت الأخضر واليابس، فما يحدث من تطور لفكر الإنسان ليس مادي لتناوله حبوبا على سبيل المثال، وليست هي التجربة الشخصية وحدها تكفي، وإلا لتعلم الإنسان من التاريخ السحيق وما كانت الحرب العالمية قد وقعت، بل هو نتاج مخزون ثقافي تراكمي كلامي لفظي تناقلته الأجيال. فما تفعله الكلمة ليس بقليل، ولا بكثير، بل هي المطلق بذاته. وهذا ما كان الإله أقرب تصديقاً حال توافر لغة شاملة كاملة قادرة غير عاجزة.
فقرُ اللغةِ وما أعنيهُ به، هي تلكَ المصطلحاتُ المفقودةُ مما تسقي عطشَنا للمعنى المرغوبِ، الذي لا ترتوي النفسُ البشريةُ حالَ غيابِها بفهمِ المطلوبِ منْ الكلامِ بالشكلِ المطلوبِ منْ الفهمِ. مثالُ ذلكَ هي تلكَ الفقرةُ منْ القصةِ القصيرةِ المعنونةِ “جارةُ اللهِ” -في مجموعتيِّ القصصيةِ التي نشرتُها قبلَ أربعِ سنواتٍ، حينما خاطبَ البطلُ زوجتهُ في الفراشِ قائلاً:
كم فقيرةٌ هي لغاتُنا نحنُ البشرِ، لا أدري أأحسدُ الطيورَ؟ ألديها لغاتُ ثريةٌ تمتلكُ لكلِّ شعورٍ منفصلٍ مفردةً خاصّةً بذاكَ الشعورِ؟ فها أنا أحبُّ النساءِ، وأحبُّكِ أنتِ أيتُها الجميلةُ، وأحبُّ شوربةَ الفاصولياءِ، والتدخينَ على المرحاضِ.
مفردةُ “أحب” الأولى هي نفسُها المستخدمةُ في الموضعِ الثانيِ والثالثِ والآخرِ، وكلُّ موضعٍ رغبنا التعبيرَ فيهِ عنِ الحبِّ للمحبوبِ المستهدفِ. أنا لا أعني المفرداتِ بالعشقِ والهيامِ والهوى وغيرِها منَ المرادفاتِ للحبِّ، فالشدةُ ليستِ المعنيةُ بكلامي، بلْ أعني روحِ الحبِّ المختلفِ للزوجةِ عنْ حبِّ التدخينِ على المرحاضِ.
في الصفحةِ ما بعدَ الصفحةِ التي تلا ذلكَ المقطعَ منْ قصةِ “جارةِ اللهِ” هذهِ، يعيدُ البطلُ الكلامَ عنِ التعبيرِ عنْ حبِّهِ المختلفِ لزوجتهِ فيضيعُ في الكلامِ حينَ قالَ:
انا لا أحبُّكِ يا جميلتي، فانا أحبُّ أمّي، وما شعوري نحوُكِ الا شعورٌ لمْ أجدْ لهُ مرادفًا في اللغاتِ التي أتقنُّها. انهُ الحبُّ، ولكنَّ بنكهةً أخرى، فانا أحبُّكِ كما تفهميني، ولا أحبُّكِ كما أفهمُ نفسي، وانا الآنَ لا أفهمُ ما أقولُ، هل تفهمينَ انتِ؟
أخبرني أخي بذلك الزمن البعيد بعيد قدومي لألمانيا أن العاصمة التشيكية جميلة، بعدها بزمن لا أتذكره أخبرني عمي المقيم بمدينتنا أن العاصمة التشيكية جميلة، وبعده ابن عم لنا قدم للسكن معنا المدينة أخبرني مثلهما بأن العاصمة التشيكية جميلة، وبعده بفترة وجيزة أخبرني صديق مقرب انضم لهم بالفكرة يشاركنا المدينة السكن، فقال أن العاصمة التشيكية جميلة. بعد فترة من زواجي، زرنا براغ تلك العاصمة التشيكية الجميلة سياحة وقضينا هناك ليلتين جميلتين. في الفندق بثاني أيامنا أعربت لزوجتي عن عتاب من اخي وعمي وابن عمي وصديقي، واخذت عليهم شكايتي بانهم وقتها أخبروني بأن العاصمة التشيكية جميلة، ولم يصفوها كما ينبغي لها من وصف. فقررت أن لا أخطئ خطأهم وقت مشورة صديق يطلبها مني عن مدينة يزورها، بأن أخبره عن براغ وما فيها من سحر الجمال الغريب، الذي لا يصح توصيفه بالجمال، فالجمال شيء، وبراغ شيء آخر. إنه روح الجمال الذي يسكن طرقاتها، وروح الجمال المصبوغ بها جدرانها، وروح الجمال الذي يمر فيها نهرها، تلك الروح التي تضفي رونقاً من جمال غير موصوف بكلمة. فالكلمة الموصوفة بها تلك المدينة غير مملوكة بعد، وليست مخترعة من قبل الإنسان. ما وصفت بها براغ ليست مبالغة مني لها وليست دعاية لها ولحسنها الأخاذ، غير أني كي لا أقع في الخطأ الذي وقع فيه الجمع القريب مني، فاضيّع على أحدهم متعة السياحة هناك بالقول أن العاصمة التشيكية جميلة، فيضنها جميلة فعلاً، فلا يزورها، أو يؤخر الزيارة كما فعلت ظنا مني بجمالها حاله كحال المدن الجميلة غيرها، فيقع اختياره على بلدة بعيدة غير براغ. وإلا فكيف لبراغ، أن تكون جميلة وسيارة اخي الجديدة الحديثة التي هنأته إياها قبل أيام أن تكون أيضاً جميلة؟ فجمال براغ شيء، وجمال سيارة أخي شيء آخر. أو كيف لحذاء أمي الذي وصفته لها يوم شرائها له بذلك اليوم بانه أجمل مني أن يكون جميلاً وبراغ أيضاً تكون جميلة؟ فحذاء أمي شيء، وعواصم العالم الجميلة مجتمعة شيء آخر.
العجز الإنساني عن التعبير المطلق لا أجد له من تبرير إلا إخفاءاً من الذات الإلهية الخالقة بتعمد منه للتعبير المطلق، فيصل حال الكشف عن تلك المقدرة إلى قابلية فطاحلة اللغة وأئمتها وعمالقة البلاغة والفصاحة إلى إيجاد الوصف الدقيق للخالق، وتعريف ماهية الحياة والموت وما بعدهما، بنفس المقدار من وصف جمال براغ بكلمة دون الاضطرار عن الوصف. لأنه كان بالإمكان وقتئذ وصف المعرفة بالخالق متاحاً للجميع فسهولة الوصول إليه بلا حاجة للفلاسفة والأنبياء، بل بحاجة إلى الشعراء لا غيرهم، ووقتها لكان كل منا نبياً.
مع التأمل في قصور التعبير المطلق، يقفز إلى الذهن فوراً سؤال الكلمة الواحدة: لماذا؟ أي السبب في حد الخالق لقدراتنا في الوصول إليه، فالإجابة على هذا السؤال هو نفسها الإجابة على سؤال الأسئلة عبر التاريخ الإنساني: أين؟ بحثاً عن مكانه. والحكمة من هذا القصور هو ذاتها الحكمة في تواجدنا بهذا العالم الأدنى، وإلا لكنا الآن جالسين في حضرته نتبادل معه أطراف الحديث.
يقول النفري أحد أئمة الصوفية في بداية كتابه “المواقف والمخاطبات: ” كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة”
ولعجزِ الانسانِ عنْ ذلكَ التعبيرِ توجّهَ الى صياغةِ مفرداتٍ على شكلِ عبارةٍ مؤلَّفةٍ منْ كلمتينِ، أو يعطفُ كلمةً على أخرى للتوكيدِ، مثال ذلك ما أوردت آنفاً من رهط من الفلاسفة، واستعمال الإنسان في تعبيرِهِ عنِ الأشخاصِ هؤلاء من الذينَ توصلوا إلى مراتبَ عليا لن يصلُها الاّ القلّةُ، على الرغمِ منْ تواجدِ نظرائِهمْ وأندادِهمْ، غيرَ أنَّ الاسمَ يبقى لتلكَ القلّةِ ولا ينال الند ذلك الشرف من العلو والصفا، حينَها يصفهم الإنسان بصفوةِ الصفوةِ، أو نخبةِ النخبةِ، أو مفردة تفصح عن المقصود ليميز به القليل عن الكثير، وإن كان الكثير من مقصدنا هم قليل بحد ذاته. فالتعبيرِ عنْ ذلكَ الشخصِ الذي وصلَ الى ما لمْ يصلِ اليهِ الصفوةُ من مرتبة عليا، وهوَ منْ ضمنِ تلكَ الصفوةِ التي هي بالأدنى عنه أصلاً، فالقصور هو أنه ليس ضمن الصفوةِ بلْ أكثرَ منَ الصفوةِ منزلة لا يتواجدُ لهُا منْ مصطلح.
فما أكثر الفلاسفة الكبار ممن غيروا العالم بمكتوبهم، ولكن الإسم العالي بقي لزمرة محدودة منهم تعد عداً، كافلاطون وأرسطو والكندي وابن سينا وهيجل وسارتر، وهم صفوة الصفوة تلك التي نعنيها ها هنا. فمن هذا تتولد أسئلة تلو غيرها، فلماذا نضطر الى أن نصف هذه الزمرة القليلة بالصفوة عن زمرة أكثر عدداً هم ايضا من صفوة البشر؟ لماذا نضطر لأجل ذلك أن نكرر لفظة “الصفوة”؟ ولماذا لا يتوافر في معاجمنا ما يخص الزمرة القليلة هذه بكلمة معينة تخصهم ولا تقال إلا فيهم؟ أو مثال غير هذا هو وصف الشعب اليهودي لنفسه بشعب الله المختار، فمن سياق الكلام نفهم أن هناك أفراداً من الناس ينتمون إلى زمرة محددة من العالمين مختارين من الله دونا عن شعوب الأرض قاطبة. لماذا نصف الشعب بجملة من ثلاث كلمات، ولم يبتكر الأولون منهم كلمة تخص هذا الشعب المختار من الله، كأن كان قد تواجدت لفظة مثلا من ابتكاري الآن سميناهم مثلا “تلمادوناشا” بدلاً من “شعب الله المختار”، لماذا نصف الشيء بجملة ولا نصفها بكلمة واحدة؟ لكنا نتذكر بتلمادوناشا عقيدة الانتخاب الإلهي هذه بنفس ما نتذكره الآن بالعبارة الثلاثية لا يزيد عن الفكرة ولا ينقص منها شيء… مثال ثالث، لماذا لم تُبتكر بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية في عام ١٩٤٥ كلمة واحدة وصفت بها المنظومة الوليدة يَومها بدل الكلمتين المتحدتين في منظمة الأمم المتحدة؟ مثال اخير غير ذي حصر، أنا اسمي نشوان، ولست اسمّى بابن عادل الدهوكي؛ فاذا كان كذلك لكان أبي بدوره لا يسمى بعادل، بل بابن أحمد الخياط، ولا هو كذلك، ولكن لماذا كنت حينها وحدي بلا اسم؟ هل انقطعت التسمية عند مولدي؟ والا لماذا كان لأبي اسمه حينها وكان عادلاً؟ أين هو مصنع الأسامي لنحتج أمام بابه قائلبن: لِم لَم تصنع مرادفا به أبدي لأمي حبي غير مرادف ذلك الشعور الذي أستخدمه مع زوجتي او ابنتي بدورها مفردة تخص شعوري نحوها؟
لماذا هذا القصور في المقدرة على خلق كلمة جديدة بعد الكلمات التي علمنا إياها من أتى بنا إلى هذا العالم؟ لماذا نستعمل كلماتنا التي علمنا إياها ذاتها دون غيرها في ابتكار منا لكلمات بانت على السطح حاجة الانسان لحداثة عهد الموصوف؟ فمن يصنع الكون هذا لم يكن بلا أدنى شك في بداية خلقه محدود المقدرة فخلقت لغاتنا محدودة المقدرة، من باب فاقد الشيء لا يعطيه. بل الأمر كله هو أن له في خلقه شؤون يخفي عنه ما يشاء؟
من دواعي العجب عجز سيدة لغات العالمين العربية على إيجاد مفردات على الرغم من المحيط الجامع لهذه الأرقام الفلكية من خيرة الكلمات، وغالب ظني أن السر وراء ذلك، وإجابة مني على تساؤلاتي الآنفة ذكرها، هو مذهبي إلى وجود خفاء غير منظور يحجب الرؤية عن المفردات، لإبقائها عنوة تحت عجز التعبير، وإلا فان صفوة الصفوة هؤلاء لأوصلونا بسحر كلامهم إلى ما وراء ذلك الخفاء فانكشف الغطاء وبانت علة الوجود التي لم ولن يزيل عنه الحجاب.
لقد جاء في الكتب أنه على هرم بهيكل إيزيس, وهي إلهة مصرية زوجة أوزيروس, انتشرت عبادتها من مصر إلى اليونان وروما، نقش مكتوب عليه: “أنا كل شيء كان، وكل شيء كائن، وكل شيء سيكون، ومحال على من يفنى، أن يزيل النقاب الذي تنقب به . من لا يفنى” من هذا الباب الذي مازال مفتوحا منذ بدء الخليقة مروراً بأزيس في مصر القديمة والى نورنبرغ الجميلة حيث أكتب كلامي بيومنا هذا الذي أدون فيه ملاحظاتي خلال رحلتي الفلسفية التي شرعت بها منذ عهد حديث، كي يكون لي بعد أغلب الظن لسنوات أقلها تقديرا الخمس، والأبعد العشرة، عوداً لي إليها أحمدُ، فأمتْن بها متن الكتاب هذا الذي سيكون وقتها قد اجتمعت كلماته واكتملت من البناء أركانه، ذلك الباب المفتوح غير الموصد، والذي سيظل مفتوحا نحاول الدخول فيه عبثا. فعلى الرغم من ضخامة جنباته وشهوق ارتفاعاته وتباعد أطرافه، فانه لم ولن يتمكن أحد من العالمين ولوجه كي يطلع على الغيب المبحوث عنه منذ الأزل دون ذي عثور.
فما أذهب اليه ها هنا من باب سحر الضاد هذا، هو أن لغات العالم أجمع لا تمتلك اللامحدودية في التعبير على الرغم من حاجات الإنسان اللامحدودة، ورأس الحاجة هو الخلود، ذلك الخلود اللامحدود، الذي سيتواجد هناك لغة أخرى تكفي للامحدودية تلك، فلابد من كلمات بضعف غير معلوم القدر من العدد تكفي لبقية عمره هناك حيث اللابقاء له ،كون الخلود لا يحضن البقاء، فيضل التعبير لدى الانسان بدنياه قاصرا محدودا ما دام المراد عظيما لا يوصل؛ وهذا هو سر ما نحن فيه من شك ومنبع هكذا تساؤلات. وأنه لم يتوقف الأمر عند قلة الغزارة في الألفاظ، بل توجه الإنسان إلى ابتداع المماحكة اللفظية، وهي استعمال الألفاظ نفسها بمعان مختلفة؛ والمماحكة هذه دليلة على عجز الانسان في التعبير بكلمة فريدة لكل شعور أو حس أو فعل أو كل ما تطلب الإفصاح عنه؛ أو التعبير المجازي الذي يجيز الوصول إلى المقصود من الكلام من غير التفاف حول الكلمات بحثا عن المناسبة. أو الأمر الآخر من مهزلة القصور اللغوي هذا، هو كلمات تفتح الباب دون ترك مجال لغلقه من مثيلات جداً، هو كلمات على شاكلة: قليلاً، عدم، بلا، للغاية، بقوة، أقصى، أبعد، قبيل، بعد….. وغيرها العشرات إن لم تكن المئات من الكلمات التي نقترنها بغيرها، مشكلين بهما شبه جملة، كي نعبر عن الشيء المقصود بكلمات فريدة غير موجودة في لغاتنا. تلك الكلمات المثيلات لهذه المذكورة آنفاً، والتي تتفتح بها أبواب التخمين لكم الشيء ونوعه على مصراعيه، ولا يوصده أبداً. فلا أنت تشبع حاجتك في التعبير، ولا المتلقي للصورة يتلقى الفكرة بالشكل المطلوب المثالي.
إنه وغالب الظن هو سر وجودنا في هذه الدنيا المحدود لنا فيها طاقة الفكر، وعدم تواجدنا في ذلك المكان الغامض الذي نبحث عنه عند من أوجدنا حال وجوده، أو عند المكان ذاك فقط حيث أصولنا حال عدم وجوده. لو كان بمقدور الإنسان من الوصول إلى المعنى بالفريد من الحرف والكلمة، لكان قد انكشف السر وحل الغموض، ولما كان لهذا الوجود من داعٍ. فلقد أخفى بديع الصنع هذا عنا ما لا ندركه بالعقل، فعلى رأي الفيلسوف الدانماركي الكبير سورين كيركيجارد حين قال: كيف نثبت بالعقل ما يتجاوز العقل؟
فاني أذهب وبقوة إلى أن لغز قصور اللغة من وصف صفوة الصفوة بلفظة واحدة بدل الاثنتين، أو الوصول للغرض بالمجاز والمماحكة، أو فتح الباب بكلمات المفتاح كأقصى حد دون اعطاء حد، او أعلى ارتفاع دون تبيان الارتفاع، ما هو بقلة حيلة اللغة ووهن ضعفها أمام حبي لأمي فتمييزها بلفظة عن حبي لابنتي، إلا دليل على السر الفريد من بين جملة أسرار لم نوهب مفاتيح غيبها بعد، الذي تشير الدلالة من اللغة مما ذكرت آنفاً من الحدود إلى وجود ذاته العلية المطلقة علة العلل
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.