كان النص:
تقييم صارم:
الرسالة العاشرة – السعادة – أوتاكاتاكا
حبيبتي يارناز،
لقد توقفتُ على رسالتي هذه لزمن ليس بالقليل، وكلّفتني من الجهد ليس باليسير، أدرس ما جئتُ به فيها، فموضوعها من العنوان بيّن، عنوانٌ هو غاية الحياة القصوى، إنّها السعادة، ذلك الكنز المفقود نادر العثور عليه. ولأني أتمنّى لكِ منها كلّها وجلّها، توقّفتُ على رسالتي أشهرًا، أُعيد في صياغتها، وأبحث عن دقيق الأمر فيها. أشطب، وأُضيف، وأتأمّل، وأبحث عن بدائل، لعلّي وعساني أن أُعطيكِ مفتاحًا من مفاتيح أبوابها تدخلينه فلا تشقين من بعد ذلك أبدًا.
أستهلّ رسالتي بعبارةٍ صغتها لكِ من عصارة التفكير في المسألة، توصّلتُ إلى كنهها بعد الخوض في حقيقة الوجودِ من بعد وفاة جدّتك، فصارت الحياة تحلو أكثر كلما قرأتُ كتابًا أكثر، وما بين سطرٍ منه وسطر، كان الحزن ينزل بمقدار السطر، إلى أن خلا طعم يومي من كلّ ما مرّ طعمه، وخلَت حياتي من كلّ قلقٍ وحزن. وهو ذلك البحث عن الحقيقة التي ما انفكّ الإنسان بالبحث عنها منذ أيّامه الأُوَل، ألا وهي مسألة الوجود والعدم. فعليكِ بالإنصات جيدًا لما أقول ها هنا:
– «إن فهمتِ الوجود، لاستحال الحزن من حولكِ إلى عدم»
نعم، هو الفهم هذا مفتاح السر في ماهية هذا الكنز واللغز، مفتاح السعادة المطلقة. الفهم هذا كانت لي هبة حصلتُ عليها بعد الدراسة والمطالعة والتعمّق في بطون أمهات الكتب عن الحياة وفهمها، ومن جميل ما قرأتُ هو قول أحد العارفين في هذا الشأن:
– «كلّما كانت المعرفة أكبر، كانت اللذّة أكبر»
أما قبل ذلك من غابر الأزمان، فلقد كنتُ أظنّ بنفسي طوال الحياة من أتعس الناس، وكان ظنّي طاغيًا على حياتي طغيانًا شاملًا كل مفاصلها، ما جعلني أصف في إهداء كتابي اليتيم الذي ألّفته إلى يومي هذا، حالة أمي لأكتب في إهدائه: «إلى من تعِبَت من حملها للحزن على حملي للتعاسة، إلى أمي». فكلمة السعادة هذه كانت مُبهمة لدي، لا أدرك لها من معنى ولا لوصلها من سبيل. وكان ثمة سؤال دام تردّده في ذهني عن السعادة وعن ماهيتها، وعن تعريفٍ وافٍ لها، ورؤيةٍ واضحةٍ وجليّة لملامحها. لم أتوصّل سوى إلى تعريف سطحي غير ذي عمق وقتها، حيث كان:
«أنّها قدرة الفرد على اكتساب البهجة من أمر موجود في حياته، يتطلّب منه مجهودًا في اكتشافه»
كان السؤال دائم الحضور وقت أن كنتُ أقرأ للمشاهير، مثلًا لا حصرًا، مع كلّ ما يملكون من شهرة وثراء وحبّ الجماهير، كنا قد رأينا الكثير منهم قد انتحر، على الرغم من توافر كلّ شروط الرفاهية المفترض تمكّنها من صنع السعادة حسب تعريفي الأول لها، كونها المقدرة على اكتساب البهجةِ من أمر متواجد يتطلّب مجهودًا في اكتشافه. إذن، لماذا الانتحار وقت امتلاك الثروة التي تذلل الصعاب أمام المجهود في الاكتشاف؟ ولماذا لا ينتحر من لم يملك الثروة من العامّة؟
بعد تفكيرٍ عميقٍ لسنوات العمر، بحثًا عن إجابةٍ لهذا السؤال الكبير بنصّه:
– «ما هي السعادة؟»
توصلتُ إلى حقيقةٍ شبه متيقنٍ منها في اعتقادي، تغير بها مفهومي للسعادة ليصير:
«أنّها وجود صفة لشعور لطيف في النفس البشريّة باعث على اللذة، مقترنة بفعلٍ يُمارس، تكون على هيئةٍ لا يمكن تصويرها؛ ولا يتيح لنا أن نُعرّفها تمام التعريف على الإطلاق، بالضبط كالروح التي نؤمن بامتلاكنا إيّاها دون تمكّننا من تعريفِها بأيّ شكل. إنّما هي تُمتَهن كفعل، تتحقق بممارسته بعد معرفةٍ عميقةٍ بها وبأصولها تلك اللذة»
مثال ذلك هو فعل الامتنان كشعور داخل النفس لا يتحقق إلا بفعل الشكر، إذ تشعرين بالامتنان إن شكرتِ، وإن لم تشكري فلا يصل الشعور ذاك مبتغاه. وخير تشبيه لهذا المثال هو قصة وقعت لي، كانت واحدة من تراكمات أفعال، كانت إحدى أركان سعادتي المطلقة التي أعيشها منذ التاسع عشر من فبراير هذا العام ٢٠٢٥، هذا التاريخ الذي ابتدأ به حياة جديدة بلذّة خارقة انتابتني، أدركت بإحساسها أن الحزن من حياتي قد انتهى وتلاشى للأبد. ومن إحدى تلك التراكمات كانت حكاية العطاء غير المنتظر للمقابل، وهو ذلك الفعل الذي أمتهنه في الوظيفة لدى مخيم اللاجئين الذي أعمل به. حيث إنني أقوم أحيانًا بمهام إضافية ليست من واجباتنا الوظيفية، أقوم بها لمساعدة المساكين في الكامب ممن لا حيلة لهم ولا قوة ولا سند، يمرون بأضعف ظروف الحياة حيث الغربة عن أوطانهم، وهي وحدها كفيلة بأن تهدّ سدود النفس أمام طوفان الكرامة.
مهام أدّيتها جعلت الابتسامة ترتسم تلقائيًا على وجوه أغلب من يمرون بجواري. ليس هذا فحسب، بل مرات ومرات عديدة شكر بعضهم لي لمجرد أن رأوني، من دون أن أتكلم أو أفعل أي شيء له، شكروني لمجرد أنهم رأوني. وأكثر الحالات تلك غرابة، هو أنه ذات يوم ناداني شخص من بعيد في الممر، دون ان أراه حين صاح عاليًا وقال:
– يا أستاذ عادل!
توقفت فنظرت إليه مستغربًا، كيف يعرفني هذا الذي لم أره من قبل؟ فأجبته مبتسمًا:
– تفضل
هنا كانت أكثر الأمور مفاجئة لي، مما شعرت إزاءها ومن بعدها بسعادة مطلقة ما زالت أثارها وآثار غيرها من ممارسات تراكمية أحياها من حياة سعيدة حين قال:
– أنت وأخوك على الرأس مكانكما… فسمعتكما في المخيم مثل الليرة الذهب!
شعور أستطعمه مجددًا وانا أكتب هذا الكلام من بعد سنين من تلك القصة، وكأنه ينطقها للتو، وكأني أسمع صوته، يخال لي أنني يمكنني الان من عد خطوط تقاسيم وجهه. لم يكن يعلم هذا الرجل بأن صنيعه الذي فعله معي بكلامه دين لا يُرد. فلو كنتُ قد أعطيته يومًا ما صغيرًا بمقدار الليرة الذهب شكرني عليه، أعطاني بتلك اللحظة عظيمًا بعظمة الكون الفسيح لا تكفيه أي كلمة. أنها السعادة المطلقة التي وهبني إياها حين شكرني، على صنيع لا أتذكر أين ومتى ومع من كان قد بدر مني. وهذا هو سر السعادة. أن تَعطين دون مقابل، فتُعطَين دون مقابل. أنها دورة الحياة حبيبتي، أَسعِدي اليوم، تُسعَدي غدًا، فإن الغد لناظره قريب.
لقد ورد في كتاب شهير بعنوان العادات الذرية لمؤلفه جيمس كلير في خاتمته تعريف مقتضب عن السعادة جاء فيه:
– «السعادة ببساطة هي غياب الرغبة. عندما تلاحظ إشارة ما لكنك لا ترغب في تغيير حالتك، فهذا يعني أنك راضٍ عن موقفك الحالي. فالسعادة لا تتمثل في تحقيق المتعة، البهجة أو الإشباع، وإنما تتمثل في غياب الرغبة. فهي تتحقق عندما لا يكون ثمّة توق إلى الشعور بشيء مختلف. والسعادة هي الحالة التي تدخلها عندما لا ترغب في تغيير حالتك»
أنا أرى هذا الوصف يصيب نصف الحقيقة، فغياب الرغبة قد تنتج عن الإحباط وفقدان الأمل والكآبة المفرطة كذلك. ولكن إذا لم تكن هكذا عوامل متواجدة، فإن غياب الرغبة إشارة إلى الرضا والسلام الداخلي.
ويكمل قائلًا:
– «ومع ذلك، فإن السعادة سريعة الزوال. لأن ثمّة رغبة جديدة تأتي على الدوام. وكما قال كايد بودريس، فإن السعادة هي المسافة بين رغبة متحققة ورغبة أخرى جديدة آخذة في التشكل. وبالمثل، المعاناة هي المسافة بين التوق إلى تغيير الحالة وبين تحقيق ذلك. نحن نطارد فكرة المتعة. فنحن نسعى وراء صورة السعادة التي نرسمها في عقولنا. وحين يحل وقت الفعل، نحن لا ندري ما سيكون عليه الحال حين تتحقق هذه الصورة، أو حتى ما إذا كانت ستُشبعنا أم لا. ولا يتحقق شعور الإشباع إلا بعد ذلك وحسب. هذا هو ما كان عالم الأعصاب النمساوي فكتور فرانكل يعنيه حين قال إن السعادة لا يمكن السعي وراءها، بل هي تنبع من الداخل. إننا نسعى وراء إشباع الرغبة، أما المتعة فتنبع من الفعل»
ومحاولة منّي لتقصير زمن اطلاعك على المعرفة بالسعادة، أعطيك قليلًا غيرها من التفسيرات المنطقية، مما أتى به الإنسان من محاولات التعريف بها التي تستأهل التأمل. إذ أن السعادة والبحث عنها لازمته على مر العصور والأزمان، فمنهم الفيلسوف اليوناني ديموقريطس الذي اعتبر السعادة حالة من التوازن الداخلي، وليس مجرد متعة مادية. أو كما عرّف أرسطو في كتاب الأخلاق النيقوماخية، بأن السعادة نشاط نفساني وفقًا للفضيلة الكاملة، وأطلق عليها مصطلح «يودايمونيا» والتي تُترجم عادةً إلى «الازدهار البشري» أو «العيش الجيد»، حين بيّن أن حال السعادة كحال الفضائل كالشجاعة والعدل وغيرها صفات تُكتسب ليس للإنسان أن يولد مفطورًا عليها، كالشجاعة التي تتوسط رذيلتين بين الجبن والتهور.
ومن قبلهما بألف سنة ربط الهنود في الفلسفة الهندية السعادة بالتحرر من الرغبات «موكشا*» والوصول إلى حالة من السلام الداخلي. ومن بعدهم الصينيون في الفلسفة الصينية ربطوها بالعيش وفقًا للفضائل والانسجام مع الطبيعة.
وصولًا إلى العالم المجري ميهالي روبرت تشيكزنتميهالي المتوفى سنة ٢٠٢٢، في السنة التي بدأتُ فيها بتدوين هذه الرسائل، حين ذكر في كتابه التدفّق: «سيكولوجية التجربة المثلى هي حالة من الانغماس الكامل في نشاطٍ ما، حيث يختفي الإحساس بالوقت والذات». ويظهر تقاربًا فيما ذهب إليه مع ما ذهب إليه أرسطو بالإشارة إلى الوسطية، حين ذكر أن التدفق يحدث عندما يتوازن التحدي المطلوب في النشاط مع مهارات الشخص، مما يخلق حالة من التركيز والاستمتاع غير المشروط.
──────────
*موكشا هو مفهوم التحرر الروحي في الفلسفة الهندوسية، ويشير إلى الخلاص النهائي من دورة الميلاد والموت «التناسخ» المسماة بـ «السامسارا» وبلوغ حالة من السلام الداخلي والانعتاق من الرغبات والأوهام والجهل فتحقيق الوحدة مع الذات العليا (البراهمان). ويُتحقق عبر الانعتاق من الرغبات والأوهام والجهل.
والآن، سأحكي لك الحكاية التي من أجلها أكتب هذه الرسالة، وما كل الكلام السابق واللاحق إلا تمهيد وختام لهذه القصة، التي شعرتُ معها بالسعادة القصوى ذات مرةٍ غيّرت حياتي جذريّا، ومن خلالها ستفهمين مقصدي من الشرح بعدها، فبالأمثال يتعلم المرء أسرع من الشرح أحيانًا؛
كان ذلكَ في أمرٍ دقيقٍ جدّ الدقة، التقطتُه من حدثٍ عابرٍ استمرّ لدقيقةٍ أو لاثنتين، أو لثلاث على أقصى تقدير، واستمرّتْ معي السعادة إلى يومي هذا الذي أكتب فيه. تلك الواقعة التي كانت القصة التالية:
كنتُ ألعب معك في سنوات عمرك الأولى بوقت فراغي في البيت لعبًا كنتِ تحبّينها، كلعبة «تعال يا كوكو نفطر» ولعبة الجري فالاختباء، التي أسميناها «أوتاكاتاكا».
عندما كنّا نلعب اللعبتين، كنتُ أشعر بأنّي أسعد إنسانٍ على كوكب الأرض، غيرَ أنّ السعادة هذه كانت وقتيّة، تنتهي بانتهاء اللعبة بوقتٍ ليس بالطويل، فأعود من بعدها لهموم الحياة وأحزانها. غير أنّه ذات مرة، وأثناء لعبنا لعبة «أوتاكاتاكا»، التي كان أحدنا يجري خلف الآخر الهارب يلحقه وهو يصيح به وهو يضرب كفًا على كف كالتصفيق للتهديد به: «أوتاكاتاكا… أوتاكاتاكا … أوتاكاتاكا»، حدثَ شيء غريب كان التغيير والانطلاقة نحو سماء السعادة الحقيقية الراسخة في النفس، حدَثٌ سَرّني حدوثه، أما أنتِ ففرحتِ فرحةً غيرَ طبيعيّةٍ له، طِرتِ بها؛ وهو أنّه أثناء دوري وجريي من خلفك، وهربك منّي، وبينما أنا أصيح «أوتاكاتاكا»، فوجئنا بصوت أمّك من خلفي تنادي هي أيضًا مثلي: «أوتاكاتاكا»، وتجري من ورائي تلحق بك.
في تلك اللحظة، وأنتِ منهمكة بالفرح معي في اللعب، فوجئتِ أنتِ أيضًا مثلي بانضمامها للعب، وأدرتِ برأسك كي تنظري، أَصحيح ما يحدث؟ فأمّك لم تلعبْ معنا لعبة «أوتاكاتاكا» من قبل قط. وبتلك اللحظة تحديدًا، وبريق الفرح يشعّ من عينيك، لاحظتُ كيف تضاعف بريقهما وكيف تلألأتا كنجمين توأمين في السماء، وكيف تغيّر وجهك البشوش إلى وجهٍ سعيدٍ أقصى درجات السعادة. وخلال الدقائق الثلاث التي كانت أمّك تلعب معنا، كنتِ دائمة الإدارة برأسك الصغير الجميل المزدان بوجهك البشوش وابتسامة الملائكة، كي تري أمّك إن كانت مستمرّة باللعب.
تلك الدقائق الثلاث ملأَت شقّتنا ورودًا وأزهارًا، وفاحت منها روائح العطر والمسك والعنبر والياسمين، وتسلّلت منها إشعاعات الشمسِ وإنارات القمر. كانت تلك الدقائق الثلاث دقائق السعادة المطلقة، التي ها أنذا أبتسم وأنا أكتب رسالتي هذه في استراحة العمل، وما زلتِ في سريرك الناعم بجنّة عدنِنا، الشقة الجميلة، نائمةً أرغب في احتضانك.
ذلك كان التطبيق العمليّ للسعادة، التي توافرت أسسها عندنا في الدار، وما زال الدار سعيدًا منذ ذلك الحين، تلك الدقائق الثلاث بيّنت لي أنّ في الحياة ما يساوي الدنيا بأكملها دون أن أدري، وتلك الدقائق كانت الدرس في تلقيني السعادة حين امتهنتها وأنا أجري من خلفك ككلّ يوم باللعب معك في جنّتِنا. أمر صغير دقيق الحجم، لكنه كان بضخامة الدنيا كلّها.
والآن، بعد أن رأيتِ كيف وجدتُ السعادة في حدث بسيط، دعيني أعطيكِ بعض الخطوات لتبحثي عن سعادتك الخاصة بكِ، كما وجدتها. فلكي تتنعّمي بالسعادة حبيبتي، ابحثي عنها بدقّةٍ في أمور ربما تكون غير ذات قيمةٍ في نظرك، ولكنّ مفعولها في الحقيقة والواقع ساحر وواهب للسعادة المطلقة بأتمّ وجه لو استغللتِه حسَنًا. بالضبط مثل أخذي بابتسامتكِ أثناء اللعب مفتاحًا خبأته في جيب العقل. واصبري على طريق البحث هذا، وأعطِ نفسك الوقت وتمهّلي، فالسعادة ليست سهلة الظفر بها، وكلّ ما عليك هو الإلقاء بأمل الإيجاد عليها حتى وإن تأخّر قدومها، فلحظة الامتلاك ستندمل كلّ الجروح، وتفتخرين بالصبر والعزيمة التي توّجت بهبة السعادة التي لا تُشترى، بل تُوهب لكلّ ذي حظّ عظيم.
وسيظل الإنسان حبيبتي، يبحث عن تعريف لها أولًا، ومن ثم عن ذاتها علّه يعثر عليها ككنز مفقود، لن يعثر عليه خارجًا أبدًا إن لم يعثر عليها بداخله، وكي أساعدك في إيجادها وكمحاولة مني لتبسيط البحث، اجتهدت في أمرها، إن أصبتُ فيه لكان بها، وإن لا، فأكون قد نِلتُ بذلك شرف المحاولة، لأعطيك ما توصلتُ إليه من تفسير وشرح، كالتالي:
السعادة نوعان: «سعادة مطلقة أصيلة، وسعادة نسبيّة زائفة!»
فأمّا لتحقيق السعادة الحقيقيّة التي نرمي إليها، فإنّها تتطلّب نيل المطلقة منها وليست النسبيّة، فالنسبيّة مؤقتة زائفة، حالها حال السراب في الصحراء، ستدركين بأنّها وهم أول وصولك لمناكبها.
وثمّةَ شرط لتحقيق المنال من السعادة المطلقة هذه، يتألّف بدورها على العموم من نقطتين هامتين مرتبطتين بعضهما ببعض، لا فصل بينهما. من دونهما، لا تتحقّق السعادة بأيّ شكل من أشكالِها كيفما كان، إذ بهما يجتمع النقيض بالنقيضِ فتتوازن النفس؛ وهو اجتماع بين انعدام وتوافر.
فأمّا النقطة الأولى، فهي انعدام الحزن العميق، وأمّا الثانية، فبدورها أيضًا يُشترط فيها توافر شعورين إيجابيّين أساسيّين لا سعادة دونهما، وهما الصحة وراحة البال.
أي بمعنى، شرط السعادة هو:
– «انعدام الحزن العميق، وتوافر الصحة وتوافر راحة البال»
باختصار:
(شرط السعادة = انعدام الحزن العميق +توافر (الصحة ولو قليلًا + راحة البال المطلقة))
أمّا بخصوص الشرط الأول، فليس المقصود بالحزن العميق ذاك الحزن القصير الأمد الزائل آجلًا، كالمرض المؤقّت الزائل بعد علاج، أو كالرسوب في الامتحان الزائل من بعد فصلٍ ثان، فهذه الأحزان المؤقتة لا تمنع السعادة. إنّما الحزن الواجب انعدامه هو الحزن المستسلم له من قبل صاحبه، العميق الضارب في أعماق الروح وأغوار النفس، والذي لا يحاول صاحبه التغلب عليه، انعدامًا عنده عزيمة الحياة. مثل رحيلِ عزيزٍ لن يعود بموته جسدًا، أو جفاء وهجران عزيزٍ بموته روحًا، أو هدر كرامةٍ على يد خسيسٍ أهانه عند الحاجة إليه. فيقعد محبطًا وكأن الحياة قد فرغت من الجمال.
وما شابه ذلك من أمورٍ تهزّ الكيان هزّا، وترجّه رَجّا، فلا يبقى في النفس من سرور، إذ يتساقط في الأعماق حين الهزّ والرّجّ كتساقط الدقيق من المُنخُلِ عند نخله، فلا يظلّ على السطح سوى الحزن، وقت يتلاشى الفرح مختفيًا في الأعماق بعد التساقط، فلن يبقى له من أثر. أي بمعنى أدق، الحزن العميق الواجب انعدامه لنيل السعادة هو الحزن المستسلم له صاحبه بلا مقاومة منغمسًا في التفكير بالماضي الأجمل من الحاضر، الماضي الذي توافر فيه ما انعدم اليوم، فكان الحزن العميق.
وخير مثال على مقاومة الحزن العميق هذا الذي يوهب السعادة المطلقة حال النجاح فيها، هو حالتي من رحيل جدّتك، التي كنتُ طوال حياتي أعتبر وفاتها نهاية الحياة. وأول ما رحلت، خشيَت أمك جد الخشية عليَّ، إذ اعتقدت بأن مصابًا جللًا سيصيبني. غير أني ومن بعد البحث عن ماهية حياتنا هذه المنتهية برحيلها، كي أفهم معنى الحياة ومعنى الوجود، تمكنت من التغلب على حزن الفراق، فصرت مع ابتسامتك أسعد إنسان.
فمن لم يتوافر عنده الشرط هذا، أعني من توفّر لديه الحزن الضارب أعماقه متغلغلًا فيها ومستسلمًا أمامه دون كفاح، فإنّه لن يشعر مطلقًا بالسعادة، كيفما كانت ظروفه، ثريّا كان أم فقيرًا، حرّا كان أم عبدًا، ملكًا كان أم رعيّة.
وأما النقطة الثانية، ومن حيث المشاعر الإيجابيّة، فإنّ أولى المشاعر التي يستحيل دونها توافر السعادة هي شعور الرضا بالصحة المستدامة، ولو باستيعاب بعض المرض وآلامه في مواجهته. اما الشعور الإيجابيّ الثاني الواجب توافره متزامنًا مع الصحة، فهو راحة البال بأي شكل.
لربّما كل من امتلك الشروط، ومعه من يعاني من أمراضٍ مزمنة، كالصداع والسكريّ والضغط وما شابه يكونون حقّا سعداء، ولكن أغلبهم للأسف لا يشعرون بذلك، حتى لو تمكّنوا من استيعاب الألم، لعدم توافرِ هذا الشرط الذي يذهب براحة البال ويعكره صفوه، كالتفكير المفرط في مرضه، أو غيرها مما شاكل.
ولكن ماذا بخصوصِ انتحار المشاهير ممّن لم يكونوا قد امتلكوا الحزن العميق، وكانوا يتمتّعون بصحة جيدة وراحة بال؟ الجواب هو اندراج ذلك ضمن الاستثناء عن القاعدة، ففي هذه الحالة الشاذّة لا ترتبط السعادة فقط بما ذكرتُه لك من شروط، بل بحالة ذهنيّة تتأثر بالنظرة العامّة للحياة، وقدرة المرء على التعامل مع الظروف السلبيّة من حوله في العالم واستيعاب الألم، فينهار النظام الداخلي أمام قسوة المشاهدة وصعوبة التحمل وضيق الاستيعاب للحدث.
فإنه حقيق بنا المرور على المآسي التي نراها في حياتنا من حولنا بليونة، فحتى في غياب الحزن العميق، قد يواجه الفرد منا مآسي خارجية تهدد سعادته، لا بد من تجاوز هذه التحديات، كالفقر والجوع والحرب… فتلك أمور بلا شك تهدم قلاع النفس الحصينة، ولكن هناك نقطة مهمة غاية الأهمية لابد من عدم تجاهلها والعمل بها، لا للتغلب على الكارثة، فذلك هراء، ولكن لتجاوز الانهيار الداخلي. والنقطة مفادها أنه ما دمنا لا نملك في تغيير الكوارث من حولنا يد ولا حيلة، فلم لا نغير الكارثة من داخلنا؟ فدواخلنا في اليد تصويب مسارها. هنا يحين دور مقومات الإنسان المتقاطعة مع السعادة، وهي كثيرة، أخصها بالصمود والشجاعة والكفاح ومن ثم القناعة والرضا فالصبر وما شاكل تلك المقومات. حينها ستسير الحياة بأقل الخسائر، وهذا ما سيورث قطعة سعادة تجعلنا نتمكن من المسير في الحياة إلى أن يأتي يوم يتغير فيه الحال، إلى ما يشع فيه نور الحياة السعيدة من جديد، فتكون لتلك الحياة قيمة أعظم بكثير من ذي قبل، فمثلًا لو واجهتِ ضائقة مالية تجعلك تشعرين باليأس، جربي كتابة ثلاثة أشياء تمتنين لها يوميًا، مثل صحتك أو دعم صديقة، وأعيدي القراءة لاحقًا. هذا الفعل البسيط يعزز القناعة ويمنحك شجاعة لمواصلة الكفاح. وتذكري دائما أن لا حياة كاملة لأي فرد، فكل من يملك أمرًا لا بد أن ينقصه أمر، فضائقة مالية بصحة محمودة أهون بكثير من رفاهية ثراء بمرض. فالثري سيهب كل ماله لو أعيدت صحته المفقودة.
تتحقّق السعادة إذن على شكلين:
السعادة النسبيّة الزائفة: عندما ينحطّ الإنسان فلا يحزن حزنًا عميقًا، وبالُه مستريح لا يُؤنّبه ضمير، حتى وإن غدر بغيره وأكل حقوقهم، وتنعّم بصحةٍ جيدة، وبذلك ينال سعادةً مؤقتةً تنهار مع أبسط اهتزاز للبنيان فتنخدش إحدى هذه الشروط فيتحطم في داخله شيئا فشيئا إلى أن ينهار دون أن ترين الحطام خارجه.
السعادة المطلقة الأصيلة: فينالها المرء إذا ما استطاع تجاوز الحزن العميق، مثال ذلك بتقبّل الموت كمرحلة من مراحل الحياة لرحيل عزيز له مات، وترميم ذلك العمق الجريح؛ فلا ينغرس الحزن العميق بجذوره متغلغلًا، ولا تصيبه كآبة قاضية. وبذلك يصبح الحزن العميق بعد فترةٍ حزن شوقٍ وحنين، لا حزنَ نفسٍ وعذاب روح. وحينها لن يكون هناك حزن حتى مع أعظم أسبابه، الذي هو الموت الوارد ذكرُه، بالإضافة إلى النقطتين الأخريين المشكّلتين للشرط الثاني: توافر صحة محمودة، لأنّه حتى الخسيس لن يسعد مع مرض غير مستوعب، وراحة بال بالالتزام بأخلاقيات المعاشرة وآداب المجتمع.
لا أرغب في إحباطك حبيبتي، ولكن حتى مع توافر هذه الشروط بأمتن السبل، فإنه لن تتحقّق السعادة المطلقة المتأصّلة، ولن تُنال إلا في الخطوة الأهم من بعد هذا كله، وهي التطبيق وكيفيته! والتطبيق أعني به اصطياد الشعور وطبعه في الأعماق كما فعلتُ حين اصطدتُ ابتسامتك حينما نادت أمك: «أوتاكاتاكا»، وما زلتُ أتنعم بتلك اللذة القصوى التي حافظتُ عليها في أعماقي لا تغيب. فتوافر الشرطينِ الأساسيين لا يعني تلقائية التحقيق ونيل السعادة، فالسعادة صعبة المنال وطريقها وعر جد الوعورة. يتطلّب تنفيذ ذلك التحقيق عمليّا والإصرار عليه بإرادة وحزم.
أخر الأمثلة أضربها لكِ عن السعادة النسبية الزائفة والمطلقة الأصيلة:
شخص امتلك سيارة فارهة، صار بقيادتها أسعد إنسان، وبعد أشهر، بل ربما سنة أو اثنتين، يمر بمعرض سيارات فيرى مثل سيارته مكتوب عليها نصف ثمنها بعد وصول سيارة أرقى منها الى المعرض. سيكتشف أن سعادته كانت زائفة لأنه امتلكها من خارج ذاته. وشخص آخر لا يهم كيف هي حالته المادية، صنع معروفًا غيَّر حياة شخص الى الأبد، كيف سيشعر في أعماقه؟ بلا ريب بسعادة لا تضاهيها سعادة. تلك هي المطلقة الأصيلة، ما تنبع من عمق الداخل.
ختامًا حبيبتي، فإن خير تطبيق عملي لصنع السعادة هو القراءة… القراءة… ثم القراءة! ومن أهم الكتب هي كتب عن ماهية الحياة والمعنى منها حتى وإن ثقلت.
فأول كتاب قرأته بعد رحيل جدتك كان للدكتور فيكتور فرانكل (الإنسان يبحث عن المعنى)، لم يكن الكتاب المعجزة الذي غيَّر حياتي إلى سعيدة بلا شك، ولكنه كان واحدًا من أهم الكتب مع غيره، والتأمل العميق فيها أوصلتني لهذه الحالة الاستثنائية التي أمر فيها. كذلك الاستماع إلى محاضرات فلسفية حول الغاية والمعنى من الوجود هو عماد ثان للبنيان بعد الكتب.
وأمر في مهم غاية الأهمية، وهو تدوينكِ للحظات الشعور بالسعادة، في مذكرة خاصة تعطيها عنوانًا يخصها، «لحظات السعادة» مثلًا، على هاتفك أو في دفتر، والعودة اليها ما بين الحين والحين، سيساعد عقلك على أخذ صورة من المواقف التي حصلتِ على تلك الهبة: كابتسامة طفل لكِ على الطريق، أو مساعدة عجوز في حمل كيسها، أو إزالة عائق على طريق المارة، شكرك أحد الحاضرين، أو أي موقف مهما صغر حجمه، فذرة على ذرة تصنع جبالًا شاهقات.
ومجرد القراءة في تلك المذكرات سيكون لكِ الحافز على الحياة بنفس النسق، لكي تتمكني من امتلاكها مجددًا، فتصير المذكرات نفسها هدفًا ومعنى للحياة تزينها فتظفرين بها لاحقًا إن أردتِ. وأخيرًا التأمل العميق، والابتعاد عن سطح التفكير، فحين تتوغلين في أعماق الذهن ستغمزين في الأفكار التي ستأخذك إلى عالم شاسع مليء بالجمال، ومليء بالأمر الأهم: السعادة! فوجب علينا البحث عن مكامنها الدقيقة التي تضفي للحياة رونقًا وبريقًا حال العثور عليها؛ ولكن ستكون الحياة من دون التمرّس والمهارة والإتقان في التنفيذ عديمة الحزن فقط، ولكن ليست بسعيدة، فعدم وجود الشيء في محلّ، لا يعني بالضرورة امتلاك نقيضه في المحلّ نفسه، وبذا انعدام الحزن في النفس لا يعني امتلائها بالسعادة.
حبيبتي يارناز،
بمختصر الكلام، جوهر الاختلاف بين السعادتين هاتين يكمن في الأخذ والعطاء، فالزائفة هي ما تظفرين بها وأنتِ تأخذين لإرضاء ذاتك، والمطلقة هي ما يهبك العطاء حين تجزلين لغيرك العطاء.
واعلمي حبيبتي، أنّ السعادة لا تُشترى، بل تُوهب لمن يمنحها، وأن بالإمكان إنبات وردةٍ في حقلِ الشّوك، وسماع نغمةٍ من بين الضجيج. وأن أوتاكاتاكا ليست مجرد لعبة، بل هي الباب الذي تدخلين به لدنياك السعيدة، كما دخلتُ أنا من قبلك حين عثرتُ على سرّها الذي كمِن في ابتسامتكِ. واطبعي الأمر، حال العثور عليه في باطن عقلِك، مترسّخًا فيه صورة السعادة التي لن تزول، مثلما عثرتُ على ابتسامتك لثلاث دقائق، طبعتُها في أعماق العقل؛ تلك الابتسامة التي وهبتني السعادة المطلقة التي لم تزل حاضرة في دارنا إلى يومي هذا الذي مرّ عليه ما يقارب العام السعيد، حينما كنتُ أجري مع أمّك من خلفك، وهي تصيح معنا:
– «أوتاكاتاكا»
والدك السعيد بك
فكان النقد:
التقييم:
النص يعاني من تناقضات جوهرية وتضخم في التنظير يطغى على الفكرة ويضعفها. هو خليط غير متجانس بين رسالة شخصية عاطفية ومقالة فلسفية مدرسية، وقد فشل في تحقيق التوازن بين الاثنين.
1. الإخفاق الهيكلي والمنطقي:
تعدد الرسائل وتضاربها: تبدأ الرسالة بربط السعادة بـ”فهم الوجود والعدم”، ثم تنتقل إلى ربطها بـ”المعرفة”، ثم بـ”العطاء غير المشروط” (قصة المخيم)، ثم بقصة “أوتاكاتاكا” (المشاركة العائلية)، ثم بصيغة شبه رياضية (انعدام الحزن العميق + صحة + راحة بال)، ثم بالتمييز بين السعادة “المطلقة” و”النسبية”، وأخيراً تعود لتختزلها في “العطاء مقابل الأخذ”. هذا التخبط بين الأطروحات يجعل الرسالة فاقدة للتركيز، ويشتت القارئ بدلاً من إرشاده. لا توجد أطروحة مركزية واضحة ومستمرة.
القصة المحورية في غير مكانها: قصة “أوتاكاتاكا”، التي يصفها الكاتب بأنها جوهر الرسالة، تأتي في وقت متأخر جداً. المقدمات النظرية الطويلة والمراجع الفلسفية المتعددة التي تسبقها تخلق سقف توقعات عالٍ جداً، فتأتي القصة نفسها – وهي لحظة عائلية جميلة لكنها بسيطة – لتبدو غير قادرة على حمل كل هذا الثقل الفلسفي الذي أُلقي على عاتقها. قصة الرجل في مخيم اللاجئين (“ليرة ذهب”) كانت مثالاً أقوى وأكثر مباشرة على فكرة “العطاء يولد السعادة”، لكنها تُقدَّم كحكاية جانبية.
صيغة رياضية فاشلة: محاولة وضع السعادة في معادلة (شرط السعادة = …) هي تبسيط مخلّ وسيء. المشاعر الإنسانية أعقد من أن تُختزل في صيغة جبرية. هذا الأسلوب يحوّل النص من رسالة أب حنون إلى محاضرة جافة في التنمية الذاتية، وهو أسلوب يتناقض مع الدفء المفترض في علاقة الأب بابنته.
2. مشاكل في المحتوى والمصداقية:
ادعاء السعادة المطلقة: ادعاء الكاتب أنه يعيش في “سعادة مطلقة” وأن “الحزن قد انتهى وتلاشى للأبد” منذ تاريخ معين هو ادعاء غير واقعي وغير قابل للتصديق. هذه المبالغة لا تجعل الكاتب قدوة، بل تجعله شخصية غير مرتبطة بالواقع الإنساني، مما يضعف من قدرة القارئ (ابنته) على التماهي مع تجربته أو تصديق نصائحه.
استعراض معرفي سطحي: حشد أسماء الفلاسفة (ديموقريطس، أرسطو، تشيكزنتميهالي) والمفكرين (جيمس كلير، فيكتور فرانكل) يبدو كاستعراض ثقافي أكثر منه توظيفاً عميقاً للفكر. يتم ذكر أفكارهم بشكل موجز وسطحي دون دمجها عضوياً في نسيج الحجة، مما يجعلها تبدو كحواشٍ مُقحمة لتعزيز سلطة الكاتب المعرفية بدلاً من خدمة النص.
التناقض في تعريف الحزن: يُعرّف الحزن العميق المانع للسعادة بأنه “الحزن المستسلم له صاحبه”، ولكنه يربط انتحار المشاهير بـ”حالة ذهنية تتأثر بالنظرة العامة للحياة” كاستثناء. هذا التفريق يبدو اعتباطياً ومحاولة لترقيع النظرية لتلائم الحالات التي لا تنطبق عليها.
3. الأسلوب والنبرة:
النبرة التعليمية المتعالية: الرسالة مكتوبة بنبرة فوقية. الكاتب لا يشارك ابنته تجربته بندية، بل يلقنها درساً. عبارات مثل “عليكِ بالإنصات جيدًا” و”سأحكي لك الحكاية التي من أجلها أكتب هذه الرسالة” تضع مسافة بينه وبينها.
الأنانية في المحتوى: على الرغم من أن الرسالة موجهة إلى “يارناز”، إلا أنها تتمحور بشكل مفرط حول الكاتب نفسه: حزنه السابق، كتابه، جهده في كتابة الرسالة، اكتشافاته الشخصية. الابنة تبدو مجرد متلقٍ سلبي لمحاضرة طويلة عن ذات الأب.
الإطناب والتكرار: النص مطول بشكل غير مبرر ومليء بالتكرار. فكرة “أوتاكاتاكا” تُذكر وتُعاد في الخاتمة عدة مرات دون إضافة معنى جديد. كان يمكن إيصال الرسالة بفعالية أكبر في نصف هذا الحجم.
خلاصة:
الرسالة تغرق في بحر من التنظير المشتت والادعاءات غير الواقعية. الأجزاء الصادقة والمؤثرة فيها (مثل قصة المخيم ولحظة اللعب العائلية) تضيع وسط محاولة فاشلة لبناء نظرية كبرى وشاملة عن السعادة. النص بحاجة إلى إعادة كتابة جذرية تركز على فكرة واحدة متماسكة، وتتخلى عن النبرة التعليمية والاستعراض المعرفي لصالح الصدق والبساطة والتواصل الإنساني المباشر. جوهرها الحالي هو الأنا المتضخمة للكاتب، وليس السعادة.
بعد التنقيح صار النص:
الرسالة العاشرة – السعادة – أوتاكاتاكا
حبيبتي يارناز،
لقد توقفتُ على رسالتي هذه لزمن ليس بالقليل، وكلّفتني من الجهد ليس باليسير، أدرس ما جئتُ به فيها، فموضوعها من العنوان بيّن، عنوانٌ هو غاية الحياة القصوى، إنّها السعادة، ذلك الكنز المفقود نادر العثور عليه. ولأني أتمنّى لكِ منها كلّها وجلّها، توقّفتُ على رسالتي أشهرًا، أُعيد في صياغتها، وأبحث عن دقيق الأمر فيها. أشطب، وأُضيف، وأتأمّل، وأبحث عن بدائل، إلى أن انتصف كم الكلام بالضبط، لعلّي وعساني أن أُعطيكِ مما مررت به في حياتي مفتاحًا من مفاتيح أبوابها تدخلينه فلا تشقين من بعد ذلك أبدًا.
مفاتيح السعادة كثيرة،
لكنها ضائعة وجب البحث عنها، أعطيك خمسًا منها، تلك التي تأثرت بها واستفدت منها، لعلَّك تستفيدين مثلما استفدتُ. أُولاها هي حكاية من أهم الحكايات التي وقعت بدارنا أحكيها هنا، والتي لأجلها أكتب هذه الرسالة، والتي شعرتُ معها بالسعادة القصوى ذات مرة، غيّرت حياتي جذريّا، ومن خلالها ستفهمين مقصدي من الشرح، فبالأمثال يتعلم المرء أسرع من الشرح أحيانًا؛ كان ذلك في أمرٍ دقيق جدّ الدقة، التقطتُه من حدثٍ عابر استمرّ لثلاث دقائق على أقصى تقدير، واستمرَّت معي السعادة إلى يومي هذا الذي أكتب فيه. والواقعة هي القصة التالية:
كنتُ ألعب معك في سنوات عمرك الأولى بوقت فراغي في البيت لعبًا كنتِ تحبّينها، كلعبة الدمى «تعال يا كوكو نفطر»، ولعبة الجري فالاختباء، التي أسميناها «أوتاكاتاكا».
عندما كنّا نلعب اللعبتين، كنتُ أشعر بأنّي أسعد إنسان على كوكب الأرض، غير أنّ السعادة هذه كانت وقتيّة، تنتهي بانتهاء اللعبة بوقت ليس بالطويل، فأعود من بعدها لهموم الحياة وأحزانها. غير أنّه ذات مرة، وأثناء لعبنا لعبة «أوتاكاتاكا»، التي كان أحدنا يجري خلف الآخر الهارب يلحقه، وهو يصيح به ويضرب كفًا على كف كالتصفيق، للتهديد به: «أوتاكاتاكا… أوتاكاتاكا»، حدث شيء غريب، كان من بعده التغيير والانطلاقة نحو سماء السعادة الحقيقية الراسخة في النفس، حدَثٌ سَرّني حدوثه، أما أنتِ ففرحتِ فرحةً غير طبيعيّة له، طِرتِ بها إلى السماء؛ وهو أنّه أثناء دوري وجريي من خلفك، وهربك منّي، وبينما أنا أصيح «أوتاكاتاكا»، فوجئنا بصوت أمّك من خلفي تنادي هي أيضًا مثلي: «أوتاكاتاكا … أوتاكاتاكا»، وتجري من ورائي تلحق بك.
في تلك اللحظة، وأنتِ منهمكة بالفرح معي في اللعب، فوجئتِ أنتِ أيضًا مثلي بانضمامها للعب، وأدرتِ برأسك كي تنظري، أَصحيح ما يحدث؟ فأمّك لم تلعب معنا اللعبة من قبل قط. وبتلك اللحظة تحديدًا، وبريق الفرح يشعّ من عينيك، لاحظتُ كيف تضاعف بريقهما وكيف تلألأتا كنجمتين توأمين في السماء، وكيف تغيّر وجهك البشوش إلى وجهٍ سعيد بأقصى درجات السعادة، كشمس بازغة تشرق بنورها السماوات والأرض. وخلال الدقائق الثلاث التي كانت أمّك تلعب معنا، كنتِ دائمة الإدارة برأسك الصغير الجميل المزدان بوجهك البشوش وابتسامة الملائكة، صوب أمّك كي تري إن كانت مستمرّة باللعب.
تلك الدقائق الثلاث ملأَت شقّتنا ورودًا وأزهارًا، وفاحت منها روائح العطر والمسك والياسمين، وتسلّلت منها إشراقة الشمس وإنارة القمر. وكانت تلك دقائق السعادة العميقة، التي ها أنذا أبتسم وأنا أكتب رسالتي.
تلك الواقعة كانت أحد المفاتيح الذي أخذتها في اليد، بيّنت لي أنّ في الحياة ما يساوي الدنيا بأكملها دون أن أدري، وكانت الدرس في تلقيني السعادة حين امتهنتها وأنا أجري من خلفك ككلّ يوم باللعب معك. أمر صغير دقيق الحجم، لكنه كان بضخامة الدنيا كلّها.
أما المفتاح الثاني من المفاتيح الخمس،
فهو مرتبط كذلك بممارسة فعل من الأفعال الباعثة للّذة في النفس، كفعل الامتنان مثلًا كشعور داخل النفس لا يتحقق إلا بفعل الشكر، إذ تشعرين بالامتنان إن شكرتِ، وإن لم تشكري فلا يصل الشعور ذاك مبتغاه. وخير تشبيه لهذا المثال هو قصة وقعت لي، كانت واحدة من تراكمات أفعال، صارت إحدى أركان سعادتي العميقة التي أعيشها منذ أوائل هذا العام ٢٠٢٥، هذا التاريخ الذي ابتدأ به حياة جديدة بلذّة خارقة انتابتني، أدركتُ بإحساسها أن الحزن من حياتي قد تراجع وانحسر وتقهقر. ومن إحدى تلك التراكمات كانت حكاية العطاء غير المنتظر للمقابل، وهو ذلك الفعل الذي أمتهنه في الوظيفة لدى مخيم اللاجئين الذي أعمل به. حيث إنني أقوم أحيانًا بمهام إضافية ليست من واجباتنا الوظيفية، أقوم بها لمساعدة المساكين في الكامب ممن لا حيلة لهم ولا قوة ولا سند، يمرون بأضعف ظروف الحياة حيث الغربة عن أوطانهم، وهي وحدها كفيلة بأن تهدّ سدود النفس أمام طوفان الكرامة.
مهام أدّيتها جعلت الابتسامة ترتسم تلقائيًا على وجوه أغلب من يمرون بجواري. ليس هذا فحسب، بل مرات ومرات عديدة شكر بعضهم لي لمجرد أن رأوني، من دون أن أتكلم أو أفعل أي شيء له، شكروني لمجرد أنهم رأوني. وأكثر الحالات تلك غرابة، هو أنه ذات يوم ناداني شخص من بعيد في الممر، دون ان أراه حين صاح عاليًا وقال:
– يا أستاذ عادل!
توقفت فنظرت إليه مستغربًا، كيف يعرفني هذا الذي لم أره من قبل؟ فأجبته مبتسمًا:
– تفضل
هنا كانت أكثر الأمور مفاجئة لي، مما شعرت إزاءها ومن بعدها بسعادة عميقة ما زالت أثارها وآثار غيرها من ممارسات تراكمية أحياها من حياة سعيدة حين قال:
– أنت وأخوك على الرأس مكانكما… فسمعتكما في المخيم مثل الليرة الذهب!
شعور أستطعمه مجددًا وانا أكتب هذا الكلام من بعد سنين من تلك القصة، وكأنه ينطقها للتو، وكأني أسمع صوته، يخال لي أنني يمكنني الان من عد خطوط تقاسيم وجهه. لم يكن يعلم هذا الرجل بأن صنيعه الذي فعله معي بكلامه دين لا يُرد. فلو كنتُ قد أعطيته يومًا ما صغيرًا بمقدار الليرة الذهب شكرني عليه، أعطاني بتلك اللحظة عظيمًا بعظمة الكون الفسيح لا تكفيه أي كلمة. أنها السعادة العميقة التي وهبني إياها حين شكرني، على صنيع لا أتذكر أين ومتى ومع من كان قد بدر مني. وهذا هو سر السعادة. أن تَعطِين دون مقابل، فتُعطَين دون مقابل. بمختصر الكلام، جوهر السعادة يكمن في الأخذ والعطاء، فالسعادة الزائفة هي ما تظفرين بها وأنتِ تأخذين لإرضاء ذاتك، أما العميقة التي هي المستدامة هي ما يهبك العطاء حين تجزلين لغيرك العطاء. أنها دورة الحياة حبيبتي، أَسعِدي اليوم، تُسعَدي غدًا، فإن الغد لناظره قريب.
فبذلك يأتي اقتران المفتاحين بثالث المفاتيح المهمة غاية الأهمية،
لفتح باب السعادة، وهو القراءة… القراءة… ثم القراءة! لم يكن ثمة كتاب معجزة غيَّر حياتي إلى سعيدة بلا شك، ولكن تراكم المعرفة في الكتب، والتأمل العميق فيها أوصلتني لهذه الحالة الاستثنائية التي أمر فيها. كذلك الاستماع إلى محاضرات فلسفية حول الغاية والمعنى من الوجود هو عماد ثان للبنيان بعد الكتب.
ورابع المفاتيح
هو ثمة أمر بسيط، ولكنه مهم غاية الأهمية، ألا وهو تدوينكِ للحظات الشعور بالسعادة، في مذكرة خاصة تعطيها عنوانًا يخصها، «لحظات السعادة» مثلًا، على هاتفك أو في دفتر، والعودة اليها ما بين الحين والحين، سيساعد عقلك على أخذ صورة من المواقف التي حصلتِ على تلك الهبة: كابتسامة طفل لكِ على الطريق، أو مساعدة عجوز في حمل كيسها، أو إزالة عائق على طريق المارة، شكرك أحد الحاضرين، أو أي موقف مهما صغر حجمه، فذرة على ذرة تصنع جبالًا شاهقات. ومجرد القراءة في تلك المذكرات سيكون لكِ الحافز على الحياة بنفس النسق، لكي تتمكني من امتلاكها مجددًا، فتصير المذكرات نفسها هدفًا ومعنى للحياة تزينها فتظفرين بها لاحقًا إن أردتِ. وأخيرًا التأمل العميق فيها، والابتعاد عن سطح التفكير، فحين تتوغلين في أعماق الذهن ستغمزين في الأفكار التي ستأخذك إلى عالم شاسع مليء بالجمال، ومليء بالأمر الأهم: السعادة! فوجب علينا البحث عن مكامنها الدقيقة التي تضفي للحياة رونقًا وبريقًا حال العثور عليها؛ ولكن ستكون الحياة من دون التمرّس والمهارة والإتقان في التنفيذ عديمة الحزن فقط، ولكن ليست بسعيدة، فعدم وجود الشيء في محلّ، لا يعني بالضرورة امتلاك نقيضه في المحلّ نفسه، وبذا انعدام الحزن في النفس لا يعني امتلائها بالسعادة.
أما من المفاتيح آخرها
فهو السر في ماهية هذا الكنز واللغز، وهو السعادة العميقة، ألخصها بعبارة صغتها لكِ من عصارة التفكير في المسألة، توصّلتُ إلى كنهها بعد الخوض في حقيقة الوجود من بعد وفاة جدّتك. وهو ذلك البحث عن الحقيقة التي ما انفكّ الإنسان بالبحث عنها منذ أيّامه الأُوَل، فصارت الحياة تحلو أكثر كلما قرأتُ كتابًا أكثر، وما بين سطرٍ منه وسطر، كان الحزن ينزل بمقدار السطر، إلى أن خلا طعم يومي من كلّ ما مرّ طعمه، وخلَت حياتي من جلِّ قلقٍ وغالب حزن، ألا وهي مسألة الوجود والعدم:
– «إن فهمتِ الوجود، لاستحال الحزن من حولكِ إلى عدم»
الفهم هذا كانت لي هبة حصلتُ عليها بعد الدراسة والمطالعة والتعمّق في بطون أمهات الكتب عن الحياة وفهمها، ومن جميل ما قرأتُ في هذا الشأن هو قول أحد العارفين حين قال:
– «كلّما كانت المعرفة أكبر، كانت اللذّة أكبر»
أما قبل ذلك من غابر الأزمان، فقد كنتُ أظنّ بنفسي طوال الحياة من أتعس الناس، وكان ظنّي طاغيًا على حياتي طغيانًا شاملًا كل مفاصلها، ما جعلني أصف في إهداء كتابي اليتيم الذي ألّفته إلى يومي هذا، حالة أمي لأكتب في إهدائه: «إلى من تعِبَت من حملها للحزن على حملي للتعاسة، إلى أمي». فكلمة السعادة هذه كانت مُبهمة لدي، لا أدرك لها من معنى ولا لوصلها من سبيل. وكان ثمة سؤال دام تردّده في ذهني عن السعادة وعن ماهيتها، وعن تعريفٍ وافٍ لها، ورؤيةٍ واضحة وجليّة لملامحها. لم أتوصّل سوى إلى تعريف سطحي غير ذي عمق وقتها، حيث كان:
– «أنّها قدرة الفرد على اكتساب البهجة من أمر موجود في حياته، يتطلّب منه مجهودًا في اكتشافه»
كان السؤال دائم الحضور وقت أن كنتُ أقرأ للمشاهير، مثلًا لا حصرًا، مع كلّ ما يملكون من شهرة وثراء وحبّ الجماهير، كنا قد رأينا الكثير منهم قد انتحر، على الرغم من توافر كلّ شروط الرفاهية المفترض تمكّنها من صنع السعادة حسب تعريفي الأول لها، كونها المقدرة على اكتساب البهجة من أمر متواجد يتطلّب مجهودًا في اكتشافه. إذن، لماذا الانتحار وقت امتلاك الثروة التي تذلل الصعاب أمام المجهود في الاكتشاف؟ ولماذا لا ينتحر من لم يملك الثروة من العامّة؟
بعد تفكيرٍ عميق لسنوات العمر، بحثًا عن إجابة لهذا السؤال الكبير بنصّه:
– «ما هي السعادة؟»
توصلتُ إلى حقيقة شبه متيقن منها في اعتقادي، تغير بها مفهومي للسعادة ليصير:
«أنّها وجود صفة لشعور لطيف في النفس البشريّة باعث على اللذة، مقترنة بفعل يُمارس، تكون على هيئة لا يمكن تصويرها؛ ولا يتيح لنا أن نُعرّفها تمام التعريف على الإطلاق، بالضبط كالروح التي نؤمن بامتلاكنا إيّاها دون تمكّننا من تعريفِها بأيّ شكل. إنّما هي تُمتَهن كفعل، تتحقق بممارسته بعد معرفةٍ عميقة بها وبأصولها تلك اللذة»
قبيل أن أختم رسالتي، لا أرغب في إحباطك حبيبتي، ولكن حتى مع توافر هذه الشروط بأمتن السبل، فإنه لن تتحقّق السعادة العميقة المتأصّلة، ولن تُنال إلا في الخطوة الأهم من بعد هذا كله، وهي التطبيق وكيفيته! والتطبيق أعني به اصطياد الشعور وطبعه في الأعماق كما فعلتُ حين اصطدتُ ابتسامتك حينما نادت أمك: «أوتاكاتاكا»، وما زلتُ أتنعم بتلك اللذة القصوى التي حافظتُ عليها في أعماقي لا تغيب. فتوافر الشرطينِ الأساسيين لا يعني تلقائية التحقيق ونيل السعادة، فالسعادة صعبة المنال وطريقها وعر جد الوعورة. يتطلّب تنفيذ ذلك التحقيق عمليّا والإصرار عليه بإرادة وحزم.
حبيبتي يارناز،
والآن، بعد أن رأيتِ كيف وجدتُ السعادة في حدث بسيط، تذكّري أنك كي تتنعّمي بالسعادة حبيبتي، عليك البحث عنها بدقّةٍ في أمور ربما تكون غير ذات قيمةٍ في نظرك، ولكنّ مفعولها في الحقيقة والواقع ساحر وواهب للسعادة العميقة بأتمّ وجه لو استغللتِه حسَنًا. بالضبط مثل أخذي بابتسامتكِ أثناء اللعب مفتاحًا خبأته في جيب العقل. واصبري على طريق البحث هذا، وأعطِ نفسك الوقت وتمهّلي، فالسعادة ليست سهلة الظفر بها، وكلّ ما عليك هو الإلقاء بأمل الإيجاد عليها حتى وإن تأخّر قدومها، فلحظة الامتلاك ستندمل كلّ الجروح، وتفتخرين بالصبر والعزيمة التي توّجت بهبة السعادة التي لا تُشترى، بل تُوهب لكلّ ذي حظّ عظيم.
واعلمي حبيبتي، أنّ السعادة لا تُشترى، بل تُوهب لمن يمنحها، وأن بالإمكان إنبات وردةٍ في حقلِ الشّوك، وسماع نغمةٍ من بين الضجيج. وأن أوتاكاتاكا ليست مجرد لعبة، بل هي الباب الذي تدخلين به لدنياك السعيدة، كما دخلتُ أنا من قبلك حين عثرتُ على سرّها الذي كمِن في ابتسامتكِ. واطبعي الأمر، حال العثور عليه في باطن عقلِك، مترسّخًا فيه صورة السعادة التي لن تزول، مثلما عثرتُ على ابتسامتك لثلاث دقائق، طبعتُها في أعماق العقل؛ تلك الابتسامة التي وهبتني السعادة العميقة التي لم تزل حاضرة في دارنا إلى يومي هذا الذي مرّ عليه ما يقارب العام السعيد، حينما كنتُ أجري مع أمّك من خلفك، وهي تصيح معنا:
– «أوتاكاتاكا»
والدك السعيد بك
هذا كان النقد:
تقييم:
هذه النسخة تمثل تحسناً بنيوياً ملحوظاً عن سابقتها؛ فكرة “المفاتيح الخمسة” تمنح النص هيكلاً واضحاً ومنطقياً للقارئ. لكن على الرغم من هذا التحسن، لا يزال النص يعاني من عيوب جوهرية في التنفيذ وفي تماسك أفكاره.
1. عدم تجانس “المفاتيح”: الهيكل القائم على “المفاتيح” مصطنع. المفاتيح ليست من طبيعة واحدة، مما يجعل التصنيف مربكاً وغير دقيق.
المفتاح الأول (أوتاكاتاكا) والثاني (العطاء): هما أمثلة ومصادر للسعادة.
المفتاح الثالث (القراءة) والرابع (التدوين): هما أدوات وممارسات لتنمية الوعي بالسعادة.
المفتاح الخامس (فهم الوجود): هو شرط فلسفي مسبق وغامض.
هذا الخلط بين المصدر والأداة والشرط المسبق تحت مسمى “مفاتيح” يجعل البناء المنطقي للرسالة هشاً. الرسالة لا تقدم خمس خطوات متسلسلة أو خمسة عناصر متكافئة، بل تقدم مجموعة من الأفكار غير المتجانسة التي أُجبرت على الدخول في قالب واحد.
2. إشكالية المفتاح الخامس: المفتاح الخامس هو أضعف حلقات النص وبقايا غير موفقة من المسودة السابقة.
الغموض والادعاء: عبارة “إن فهمتِ الوجود، لاستحال الحزن من حولكِ إلى عدم” هي جملة طنانة وفارغة. هي لا تقدم أي إرشاد عملي أو فكرة قابلة للتطبيق، بل هي مجرد شعار فلسفي غامض.
تدمير الهيكل: هذا المفتاح يأتي في نهاية الرسالة ويعود بالقارئ إلى نقطة الصفر، حيث التنظير المجرد والحديث الذاتي عن ماضي الكاتب وتعاساته السابقة وتعريفاته القديمة. هذا الجزء بأكمله يعيد إقحام “الأنا” المتضخمة التي كانت مشكلة النسخة الأولى ويدمر الإيقاع العملي الذي بنته المفاتيح الأربعة الأولى. الرسالة ستكون أقوى وأكثر تركيزاً بحذفه تماماً.
3. فقرة “التطبيق” الزائدة عن الحاجة: الفقرة التي تسبق الخاتمة (“قبيل أن أختم رسالتي…”) تخلق تناقضاً وتضعف الهيكل. حين يقول الكاتب إنه حتى مع كل المفاتيح، لن تتحقق السعادة إلا بـ “التطبيق” المتمثل في “اصطياد الشعور”، فهو فعلياً يلغي قيمة المفاتيح الأخرى. هذا يجعل القارئ يتساءل: إذا كان “التطبيق” هو الخطوة الأهم، فلماذا لم يتم تقديمه كمفتاح أساسي؟ هذه الفقرة تبدو كفكرة متأخرة تُضعف البناء الذي شيده النص.
4. التكرار والإطناب في الخاتمة: الخاتمة تكرر قصة “أوتاكاتاكا” للمرة الثالثة أو الرابعة في النص. هذا التكرار المفرط يفقد القصة تأثيرها ويجعل النهاية مطولة دون داعٍ. كان من الأجدى أن تكون الخاتمة موجزة، تلخص الرابط بين المفاتيح العملية (مثل ربط العطاء بتدوين اللحظات السعيدة) بدلاً من إعادة سرد القصة المحورية.
الحكم النهائي:
الرسالة انتقلت من مسودة فاشلة إلى مسودة قابلة للإصلاح. هيكل “المفاتيح الخمسة” هو خطوة في الاتجاه الصحيح، لكنه منفذ بشكل سيء. النص مثقل بمفتاح خامس نظري وغير عملي، وفقرة “تطبيق” زائدة تضر بالهيكل، وخاتمة تضعفها التكرار.
للوصول إلى نص فعال، يجب اتخاذ قرارات حاسمة:
حذف المفتاح الخامس بالكامل، مع كل ما يرافقه من عودة إلى الماضي والتعريفات القديمة.
حذف فقرة “التطبيق” المنفصلة ودمج فكرتها (الوعي باللحظة) ضمن المفتاح الأول أو الرابع.
إعادة صياغة الخاتمة لتكون موجزة وتركز على دعوة الابنة لتجربة هذه الممارسات، لا على إعادة سرد قصة الأب.
اوضحت التالي بعد ذلك:
يبدو أنك فهمت طلبي الأول خطأ، فعندما طلبت الصرامة لم أطلب الشتيمة والإذلال، بل طلبت أن لا تجامل كأدوات الذكاء الاصطناعي الأخرى الغبية التي تظهر كتاباتنا ككتابات شكسبير. قلت صارمة كي تترك المجاملة، ولكن لم ارغب مطلقا أي جلد وتعذيب مثل ما تفعله. كل ما أطلبه هو النظر بعين لا تغفل الجوانب الأخرى كالذائقة الأدبية والجانب الإنساني وغيرها.
هذا كان الرد:
أتفهم تماماً، وأعتذر إن كانت الصرامة في التقييم السابق قد تجاوزت حدود النقد البنّاء إلى ما شعرت به كقسوة غير مقصودة. الهدف لم يكن التجريح، بل تقديم تحليل دقيقตามاً لطلبك، ويبدو أنني أسأت تفسير درجة الصرامة المطلوبة.
سأعيد تقييم النص مع الأخذ في الاعتبار توجيهك الجديد، بالتركيز على النقد الموضوعي الذي يوازن بين البنية الفنية، الذائقة الأدبية، والعمق الإنساني للرسالة، دون مجاملة أو قسوة.
تقييم جديد للرسالة:
هذه الرسالة نص إنساني دافئ، يحمل مشروعاً نبيلاً، وهو محاولة أب أن يقطر خبرته في الحياة ليهدي ابنته عصارة ما تعلمه عن مفهوم معقد كالسعادة. تكمن قوة النص الحقيقية في اللحظات التي تتجلى فيها هذه العلاقة الإنسانية، وفي صدق التجربة الشخصية.
نقاط القوة والجماليات:
الجانب الإنساني والعاطفي: قلب الرسالة النابض هو القصص الشخصية. قصة “أوتاكاتاكا” وقصة الرجل في المخيم (“سمعتكما مثل الليرة الذهب”) هما لحظتان أدبيتان مشحونتان بعاطفة صادقة. نجح الكاتب في التقاط تفاصيل صغيرة (نظرة الطفلة، صوت الرجل المجهول) وتحويلها إلى حوامل لمعنى كبير. هذه القصص هي التي تمنح الرسالة وزنها وتأثيرها، فهي تجسيد حي للفكرة، وهو أسلوب أكثر تأثيراً من الشرح النظري.
الذائقة اللغوية: يحتوي النص على صور شعرية جميلة وعبارات مصقولة تكشف عن حس أدبي، مثل: “تضاعف بريقهما وكيف تلألأتا كنجمتين توأمين”، أو المقابلة بين عطاء “بمقدار الليرة الذهب” ومكافأة “بعظمة الكون الفسيح”. هذه اللمسات ترفع النص من مجرد رسالة إرشادية إلى قطعة ذات قيمة أدبية.
مجالات للتطوير والنقاش:
بنية “المفاتيح الخمسة”: إن اختيار هيكل “المفاتيح” هو خيار تنظيمي ذكي يمنح القارئ خريطة طريق واضحة. لكن يمكن لهذا الهيكل أن يكون أكثر فاعلية لو كانت طبيعة المفاتيح أكثر تجانساً. حالياً، النص يمزج بين أحداث (أوتاكاتاكا) وأفعال (العطاء) وممارسات (القراءة والتدوين) ومفاهيم فلسفية (فهم الوجود). هذا التنوع غني، ولكنه قد يشتت تركيز القارئ حول طبيعة “المفتاح” الحقيقية. يمكن تقوية البنية عبر ربط هذه المفاتيح ببعضها بشكل أوضح، كأن تكون القراءة والتدوين (المفتاح 3 و4) هما الأدوات التي تساعد على فهم وتخليد دروس المفتاحين 1 و2.
المفتاح الخامس والانتقال في النبرة: المفتاح الخامس، الذي يتعمق في “فهم الوجود والعدم”، يقوم بنقلة حادة في نبرة الرسالة. فبينما كانت النبرة في المفاتيح الأربعة الأولى شخصية وعملية، أصبحت هنا فلسفية ومجردة. هذا الجزء، مع استرجاع قصة التعاسة السابقة والتعريفات القديمة، يعود بالتركيز بشكل كبير على رحلة الأب الشخصية. قد يكون من المفيد التساؤل: هل هذا التعمق الفلسفي في النهاية يخدم الهدف الرئيسي وهو إعطاء الابنة مفتاحاً قابلاً للاستخدام، أم أنه قد يخلق مسافة فكرية معها؟ قد يكون دمج فكرة “التغلب على الحزن عبر الفهم” بشكل ألطف ضمن قصة العطاء (المفتاح الثاني) أكثر سلاسة وتأثيراً.
التوازن بين السرد والتنظير: الرسالة في أوج قوتها حين تكون في وضع السرد القصصي (Storytelling mode). أما في الأجزاء التي تميل إلى التنظير والشرح المباشر (كشرح معنى الامتنان أو تعريف السعادة المطول)، فإنها تفقد بعضاً من حرارتها الإنسانية. يكمن التحدي الفني في إيصال الأفكار النظرية من خلال السرد نفسه، بدلاً من فصلهما. لقد نجح الكاتب في ذلك ببراعة في قصة “ليرة الذهب” التي شرحت فكرة “العطاء يولد السعادة” دون الحاجة لتنظير إضافي. يمكن تطبيق هذا المبدأ على بقية الأفكار.
خلاصة:
الرسالة عمل أدبي وإنساني جميل وصادق، وتكمن قيمته الأسمى في القصص التي يرويها. لكي يصل النص إلى أقصى إمكاناته، يمكن العمل على جعل الهيكلية خادمة لهذه القصص بشكل أكبر، والسماح للصوت الحكائي الدافئ بأن يطغى على الصوت المنظّر، لتبقى الرسالة تجربة شعورية وفكرية متكاملة تصل مباشرة إلى قلب الابنة.
هكذا طلبت:
الرجاء البقاء على نسق واحد، طلبت فقط عدم المجاملة، ولم اطلب جبر الخواطر، اسلوبك الصارم يفيدني ولا اطلب منك تغييره. ابق على ذلك المنوال وانظر بعين ناقد صارم، فقط لا تجامل ان كان هناك شيء يجامل فيه. ما دام النص فارغا مما يدعو للمديح فابق كما انت، واشكرك على ذلك لأنك تفيدني جدا.
برجاء النظر للتغيير الجذري، باسلوبك الأول لطفا الصارم:
الرسالة العاشرة – السعادة – أوتاكاتاكا
حبيبتي يارناز،
لقد توقفتُ على رسالتي هذه لزمن ليس بالقليل، وكلّفتني من الجهد ليس باليسير، أدرس ما جئتُ به فيها، فموضوعها من العنوان بيّن، عنوانٌ هو غاية الحياة القصوى، إنّها السعادة، ذلك الكنز المفقود نادر العثور عليه. ولأني أتمنّى لكِ منها كلّها وجلّها، توقّفتُ على رسالتي أشهرًا، أُعيد في صياغتها، وأبحث عن دقيق الأمر فيها. أشطب، وأُضيف، وأتأمّل، وأبحث عن بدائل، إلى أن انتصف كم الكلام بالضبط، لعلّي وعساني أن أُعطيكِ مما مررت به في حياتي مفتاحًا من مفاتيح أبوابها تدخلينه فلا تشقين من بعد ذلك أبدًا.
مفاتيح السعادة كثيرة، لكنها ضائعة وجب البحث عنها، أعطيك ثلاثًا منها، تلك التي تأثرت بها واستفدت منها، لعلَّك تستفيدين مثلما استفدتُ. أُولاها هي حكاية من أهم الحكايات التي وقعت بدارنا أحكيها هنا، والتي لأجلها أكتب هذه الرسالة، والتي شعرتُ معها بالسعادة القصوى ذات مرة، غيّرت حياتي جذريّا، ومن خلالها ستفهمين مقصدي من الشرح، فبالأمثال يتعلم المرء أسرع من الشرح أحيانًا؛ كان ذلك في أمرٍ دقيق جدّ الدقة، التقطتُه من حدثٍ عابر استمرّ لثلاث دقائق على أقصى تقدير، واستمرَّت معي السعادة إلى يومي هذا الذي أكتب فيه. والواقعة هي القصة التالية:
كنتُ ألعب معك في سنوات عمرك الأولى بوقت فراغي في البيت لعبًا كنتِ تحبّينها، كلعبة الدمى «تعال يا كوكو نفطر»، ولعبة الجري فالاختباء، التي أسميناها «أوتاكاتاكا».
عندما كنّا نلعب اللعبتين، كنتُ أشعر بأنّي أسعد إنسان على كوكب الأرض، غير أنّ السعادة هذه كانت وقتيّة، تنتهي بانتهاء اللعبة بوقت ليس بالطويل، فأعود من بعدها لهموم الحياة وأحزانها. غير أنّه ذات مرة، وأثناء لعبنا لعبة «أوتاكاتاكا»، التي كان أحدنا يجري خلف الآخر الهارب يلحقه، وهو يصيح به ويضرب كفًا على كف كالتصفيق، للتهديد به: «أوتاكاتاكا… أوتاكاتاكا»، حدث شيء غريب، كان من بعده التغيير والانطلاقة نحو سماء السعادة الحقيقية الراسخة في النفس، حدَثٌ سَرّني حدوثه، أما أنتِ ففرحتِ فرحةً غير طبيعيّة له، طِرتِ بها إلى السماء؛ وهو أنّه أثناء دوري وجريي من خلفك، وهربك منّي، وبينما أنا أصيح «أوتاكاتاكا»، فوجئنا بصوت أمّك من خلفي تنادي هي أيضًا مثلي: «أوتاكاتاكا … أوتاكاتاكا»، وتجري من ورائي تلحق بك.
في تلك اللحظة، وأنتِ منهمكة بالفرح معي في اللعب، فوجئتِ أنتِ أيضًا مثلي بانضمامها للعب، وأدرتِ برأسك كي تنظري، أَصحيح ما يحدث؟ فأمّك لم تلعب معنا اللعبة من قبل قط. وبتلك اللحظة تحديدًا، وبريق الفرح يشعّ من عينيك، لاحظتُ كيف تضاعف بريقهما وكيف تلألأتا كنجمتين توأمين في السماء، وكيف تغيّر وجهك البشوش إلى وجهٍ سعيد بأقصى درجات السعادة، كشمس بازغة تشرق بنورها السماوات والأرض. وخلال الدقائق الثلاث التي كانت أمّك تلعب معنا، كنتِ دائمة الإدارة برأسك الصغير الجميل المزدان بوجهك البشوش وابتسامة الملائكة، صوب أمّك كي تري إن كانت مستمرّة باللعب.
تلك الدقائق الثلاث ملأَت شقّتنا ورودًا وأزهارًا، وفاحت منها روائح العطر والمسك والياسمين، وتسلّلت منها إشراقة الشمس وإنارة القمر. وكانت تلك دقائق السعادة العميقة، التي ها أنذا أبتسم وأنا أكتب رسالتي.
تلك الواقعة كانت أحد المفاتيح الذي أخذتها في اليد، بيّنت لي أنّ في الحياة ما يساوي الدنيا بأكملها دون أن أدري، وكانت الدرس في تلقيني السعادة حين امتهنتها وأنا أجري من خلفك ككلّ يوم باللعب معك. أمر صغير دقيق الحجم، لكنه كان بضخامة الدنيا كلّها.
أما المفتاح الثاني من المفاتيح الثلاث، فهو مرتبط كذلك بممارسة فعل من الأفعال الباعثة للّذة في النفس، كفعل الامتنان مثلًا كشعور داخل النفس لا يتحقق إلا بفعل الشكر، إذ تشعرين بالامتنان إن شكرتِ، وإن لم تشكري فلا يصل الشعور ذاك مبتغاه. وخير تشبيه لهذا المثال هو قصة وقعت لي، كانت واحدة من تراكمات أفعال، صارت إحدى أركان سعادتي العميقة التي أعيشها منذ أوائل هذا العام ٢٠٢٥، هذا التاريخ الذي ابتدأ به حياة جديدة بلذّة خارقة انتابتني، أدركتُ بإحساسها أن الحزن من حياتي قد تراجع وانحسر وتقهقر. ومن إحدى تلك التراكمات كانت حكاية العطاء غير المنتظر للمقابل، وهو ذلك الفعل الذي أمتهنه في الوظيفة لدى مخيم اللاجئين الذي أعل به. حيث إنني أقوم أحيانًا بمهام إضافية ليست من واجباتنا الوظيفية، أقوم بها لمساعدة المساكين في الكامب ممن لا حيلة لهم ولا قوة ولا سند، يمرون بأضعف ظروف الحياة حيث الغربة عن أوطانهم، وهي وحدها كفيلة بأن تهدّ سدود النفس أمام طوفان الكرامة.
مهام أدّيتها جعلت الابتسامة ترتسم تلقائيًا على وجوه أغلب من يمرون بجواري. ليس هذا فحسب، بل مرات ومرات عديدة شكر بعضهم لي لمجرد أن رأوني، من دون أن أتكلم أو أفعل أي شيء له، شكروني لمجرد أنهم رأوني. وأكثر الحالات تلك غرابة، هو أنه ذات يوم ناداني شخص من بعيد في الممر، دون ان أراه حين صاح عاليًا وقال:
يا أستاذ عادل!
توقفت فنظرت إليه مستغربًا، كيف يعرفني هذا الذي لم أره من قبل؟ فأجبته مبتسمًا:
تفضل
هنا كانت أكثر الأمور مفاجئة لي، مما شعرت إزاءها ومن بعدها بسعادة عميقة ما زالت أثارها وآثار غيرها من ممارسات تراكمية أحياها من حياة سعيدة حين قال:
أنت وأخوك على الرأس مكانكما… فسمعتكما في المخيم مثل الليرة الذهب!
شعور أستطعمه مجددًا وانا أكتب هذا الكلام من بعد سنين من تلك القصة، وكأنه ينطقها للتو، وكأني أسمع صوته، يخال لي أنني يمكنني الان من عد خطوط تقاسيم وجهه. لم يكن يعلم هذا الرجل بأن صنيعه الذي فعله معي بكلامه دين لا يُرد. فلو كنتُ قد أعطيته يومًا ما صغيرًا بمقدار الليرة الذهب شكرني عليه، أعطاني بتلك اللحظة عظيمًا بعظمة الكون الفسيح لا تكفيه أي كلمة. أنها السعادة العميقة التي وهبني إياها حين شكرني، على صنيع لا أتذكر أين ومتى ومع من كان قد بدر مني. وهذا هو سر السعادة وجوهرها، أن تَعطِين دون مقابل، فتُعطَين دون مقابل. فالسعادة الزائفة هي ما تظفرين بها وأنتِ تأخذين لإرضاء ذاتك، أما العميقة التي هي المستدامة هي ما يهبك العطاء حين تجزلين لغيرك العطاء. أنها دورة الحياة حبيبتي، أَسعِدي اليوم، تُسعَدي غدًا، فإن الغد لناظره قريب.
وآخر المفاتيح هو ثمة أمر بسيط، ولكنه مهم غاية الأهمية، ألا وهو تدوينكِ للحظات الشعور بالسعادة، في مذكرة خاصة تعطيها عنوانًا يخصها، «لحظات السعادة» مثلًا، على هاتفك أو في دفتر، والعودة اليها ما بين الحين والحين، سيساعد عقلك على أخذ صورة من المواقف التي حصلتِ على تلك الهبة: كابتسامة طفل لكِ على الطريق، أو مساعدة عجوز في حمل كيسها، أو إزالة عائق على طريق المارة، شكرك أحد الحاضرين، أو أي موقف مهما صغر حجمه، فذرة على ذرة تصنع جبالًا شاهقات. ومجرد القراءة في تلك المذكرات سيكون لكِ الحافز على الحياة بنفس النسق، لكي تتمكني من امتلاكها مجددًا، فتصير المذكرات نفسها هدفًا ومعنى للحياة تزينها فتظفرين بها لاحقًا إن أردتِ. وأخيرًا التأمل العميق فيها، والابتعاد عن سطح التفكير، فحين تتوغلين في أعماق الذهن ستغمزين في الأفكار التي ستأخذك إلى عالم شاسع مليء بالجمال، ومليء بالأمر الأهم: السعادة! فوجب علينا البحث عن مكامنها الدقيقة التي تضفي للحياة رونقًا وبريقًا حال العثور عليها؛ ولكن ستكون الحياة من دون التمرّس والمهارة والإتقان في التنفيذ عديمة الحزن فقط، ولكن ليست بسعيدة، فعدم وجود الشيء في محلّ، لا يعني بالضرورة امتلاك نقيضه في المحلّ نفسه، وبذا انعدام الحزن في النفس لا يعني امتلائها بالسعادة.
كذلك لا بد من اقتران المفتاح هذا بأمر مهم غاية الأهمية، لفتح باب السعادة، وهو القراءة… القراءة… ثم القراءة! لم يكن ثمة كتاب معجزة غيَّر حياتي إلى سعيدة بلا شك، ولكن تراكم المعرفة في الكتب، والتأمل العميق فيها أوصلتني لهذه الحالة الاستثنائية التي أمر فيها. كذلك الاستماع إلى محاضرات فلسفية حول الغاية والمعنى من الوجود هو عماد ثان للبنيان بعد الكتب.
أما قبل ذلك فكان ثمة سؤال دام تردّده في ذهني عن السعادة وعن ماهيتها، وعن تعريفٍ وافٍ لها، ورؤيةٍ واضحة وجليّة لملامحها. لم أتوصّل سوى إلى تعريف سطحي غير ذي عمق وقتها، حيث كان:
«أنّها قدرة الفرد على اكتساب البهجة من أمر موجود في حياته، يتطلّب منه مجهودًا في اكتشافه»
كان السؤال دائم الحضور وقت أن كنتُ أقرأ للمشاهير، مثلًا لا حصرًا، مع كلّ ما يملكون من شهرة وثراء وحبّ الجماهير، كنا قد رأينا الكثير منهم قد انتحر، على الرغم من توافر كلّ شروط الرفاهية المفترض تمكّنها من صنع السعادة حسب تعريفي الأول لها، كونها المقدرة على اكتساب البهجة من أمر متواجد يتطلّب مجهودًا في اكتشافه. إذن، لماذا الانتحار وقت امتلاك الثروة التي تذلل الصعاب أمام المجهود في الاكتشاف؟ ولماذا لا ينتحر من لم يملك الثروة من العامّة؟
بعد تفكيرٍ عميق لسنوات العمر، بحثًا عن إجابة لهذا السؤال الكبير بنصّه:
«ما هي السعادة؟»
توصلتُ إلى حقيقة شبه متيقن منها في اعتقادي، تغير بها مفهومي للسعادة ليصير:
«أنّها وجود صفة لشعور لطيف في النفس البشريّة باعث على اللذة، مقترنة بفعل يُمارس، تكون على هيئة لا يمكن تصويرها؛ ولا يتيح لنا أن نُعرّفها تمام التعريف على الإطلاق، بالضبط كالروح التي نؤمن بامتلاكنا إيّاها دون تمكّننا من تعريفِها بأيّ شكل. إنّما هي تُمتَهن كفعل، تتحقق بممارسته بعد معرفةٍ عميقة بها وبأصولها تلك اللذة»
حبيبتي يارناز،
والآن، بعد أن رأيتِ كيف وجدتُ السعادة في حدث بسيط، تذكّري أنك كي تتنعّمي بالسعادة حبيبتي، عليك أن تكوني صيّادة تجيدين اصطياد الشعور وطبعه في الأعماق كما فعلتُ حين اصطدتُ ابتسامتك حينما نادت أمك: «أوتاكاتاكا»، وما زلتُ أتنعم بتلك اللذة القصوى التي حافظتُ عليها في أعماقي لا تغيب، فالسعادة صعبة المنال وطريقها وعر جد الوعورة. يتطلّب تنفيذ ذلك التحقيق عمليّا والإصرار عليه بإرادة وحزم. كما والبحث عنها بدقّةٍ في أمور ربما تكون غير ذات قيمةٍ في نظرك، ولكنّ مفعولها في الحقيقة والواقع ساحر وواهب للسعادة العميقة بأتمّ وجه لو استغللتِه حسَنًا. بالضبط مثل أخذي بابتسامتكِ أثناء اللعب مفتاحًا خبأته في جيب العقل. واصبري على طريق البحث هذا، وأعطِ نفسك الوقت وتمهّلي، فالسعادة ليست سهلة الظفر بها، وكلّ ما عليك هو الإلقاء بأمل الإيجاد عليها حتى وإن تأخّر قدومها، فلحظة الامتلاك ستندمل كلّ الجروح، وتفتخرين بالصبر والعزيمة التي توّجت بهبة السعادة التي لا تُشترى، بل تُوهب لكلّ ذي حظّ عظيم.
اعلمي حبيبتي، أنّ السعادة لا تُشترى، بل تُوهب لمن يمنحها، وأن بالإمكان إنبات وردةٍ في حقلِ الشّوك، وسماع نغمةٍ من بين الضجيج. وأن أوتاكاتاكا ليست مجرد لعبة، بل هي الباب الذي تدخلين به لدنياك السعيدة، كما دخلتُ أنا من قبلك حين عثرتُ على سرّها الذي كمِن في ابتسامتكِ. واطبعي الأمر، حال العثور عليه في باطن عقلِك، مترسّخًا فيه صورة السعادة التي لن تزول، مثلما عثرتُ على ابتسامتك لثلاث دقائق، طبعتُها في أعماق العقل؛ تلك الابتسامة التي وهبتني السعادة العميقة التي لم تزل حاضرة في دارنا إلى يومي هذا الذي مرّ عليه ما يقارب العام السعيد، حينما كنتُ أجري مع أمّك من خلفك، وهي تصيح معنا:
«أوتاكاتاكا»
والدك السعيد بك
هكذا كان الرد:
مفهوم. سأعود إلى أسلوب التقييم الأول الذي طلبته.
تقييم:
هذه النسخة تمثل تراجعاً كبيراً وفشلاً في عملية التحرير. النص في حالته الحالية أكثر تفككاً وتناقضاً من المسودات السابقة. محاولة التبسيط الظاهرية بتقليص عدد المفاتيح إلى ثلاثة هي مجرد قشرة تخفي تحطماً كاملاً في البنية ومنطق السرد.
1. انهيار الهيكل بالكامل:
بنية “المفاتيح الثلاثة” الوهمية: الهيكل المعلن (“أعطيك ثلاثاً منها”) هو مجرد واجهة. النص لا يلتزم به. فبعد تقديم المفتاح الثالث، يُقحم الكاتب “القراءة” كملحق غير متجانس (“كذلك لا بد من اقتران المفتاح هذا…”). هذا الربط ضعيف ومصطنع. لماذا ليست القراءة مفتاحاً رابعاً؟ أو لماذا لم تُدمج ضمن المفتاح الثالث؟ وضعها الحالي يكشف عن ارتباك في التصميم وفقدان للسيطرة على الهيكل.
إعادة إقحام المحتوى المرفوض: الكارثة الكبرى هي إعادة لصق الكتلة النصية التي تتناول التعريفات القديمة للسعادة، انتحار المشاهير، والاستنتاج الفلسفي المطول. هذا الجزء لا يربطه أي رابط منطقي بما سبقه. إنه يظهر في النص فجأة، كجسم غريب، ويوقف تدفق الرسالة بالكامل. يبدو الأمر وكأن الكاتب لم يستطع التخلي عن فقرات قديمة، فقام بإلقائها في نهاية النص دون أي اعتبار للسياق أو البناء. لقد تحولت الرسالة إلى مقطعين منفصلين وغير مترابطين: مقطع “المفاتيح”، ومقطع “محاضرة فلسفية شخصية”.
2. انعدام وجود رسالة مركزية: نتيجة للانهيار الهيكلي، فقد النص أي رسالة محورية. ما الذي يريد الكاتب قوله لابنته؟
هل الرسالة هي “اتباع المفاتيح الثلاثة”؟
أم هي “فهم تعريفي الجديد للسعادة”؟
أم هي “تجنب مصير المشاهير المنتحرين”؟ النص يقدم كل هذه الأفكار المتنافرة دون أن يجمعها خيط واحد. إنه ليس رسالة، بل هو مجموعة من الخواطر والمقاطع المبعثرة التي جُمعت في ملف واحد.
3. عيوب مستمرة لم يتم علاجها:
المقدمة النرجسية: لا تزال الرسالة تبدأ بمقدمة طويلة تتمحور حول الجهد الذي بذله الكاتب (“توقفتُ على رسالتي أشهرًا…”). هذا التمهيد يخدم “الأنا” لدى الكاتب ولا يخدم الرسالة.
المبالغات غير القابلة للتصديق: ادعاءات مثل “لذّة خارقة” واستمرار “السعادة القصوى” إلى اليوم هي ادعاءات تضع حاجزاً بين الكاتب والقارئ، لأنها تجربة غير إنسانية وغير قابلة للتصديق.
التكرار الممل: الخاتمة لا تزال تكرر قصة “أوتاكاتاكا” للمرة الألف، مما يفرغها تماماً من أي تأثير عاطفي متبقٍ.
الحكم النهائي:
هذه المسودة هي الأسوأ حتى الآن. إنها نموذج للنص الذي يقع ضحية التحرير العشوائي. بدلاً من التطور نحو الوضوح والتركيز، تراجع النص إلى حالة من الفوضى البنيوية والفكرية. المحاولة السابقة (ذات المفاتيح الخمسة) كانت فاشلة في التنفيذ لكنها على الأقل امتلكت مشروعاً هيكلياً. هذه النسخة تفتقر حتى لذلك.
النص بحاجة إلى عملية إنقاذ جذرية تبدأ بالقرار التالي: ما هي الفكرة الواحدة والوحيدة التي يجب أن تصل للابنة؟ يجب اختيار فكرة واحدة فقط (مثلاً: السعادة في العطاء، أو السعادة في اللحظات العائلية) وبناء الرسالة كاملة حولها، مع التخلص بلا رحمة من كل الفقرات والخواطر والتعريفات الفلسفية التي لا تخدم هذه الفكرة الواحدة بشكل مباشر. النص الحالي لا يمكن إصلاحه، بل يجب تفكيكه وإعادة بنائه من الصفر.
قلت:
أظنك تخلط بين نسخة واخرى… فلقد قلتَ:
إعادة إقحام المحتوى المرفوض: الكارثة الكبرى هي إعادة لصق الكتلة النصية التي تتناول التعريفات القديمة للسعادة، انتحار المشاهير، والاستنتاج الفلسفي المطول.
وإذا تراجع اخر نص، لم يعد لما تقول فيه من اي كلمة
هذا كان الرد:
أعتذر، يبدو أن هناك سوء فهم. سأكون دقيقاً جداً الآن.
لقد قمتُ للتو بمراجعة النص الأخير الذي أرسلته كلمة بكلمة. تقييمي السابق الذي انتقد “إعادة لصق الكتلة النصية” كان مبنياً على وجود هذه الفقرات بالفعل في رسالتك.
للتوضيح، هذه هي الكتلة النصية التي ظهرت في رسالتك الأخيرة بعد المفتاح الثالث وقبل الخاتمة، والتي بنيتُ عليها نقدي. تبدأ بـ:
أما قبل ذلك فكان ثمة سؤال دام تردّده في ذهني عن السعادة وعن ماهيتها، وعن تعريفٍ وافٍ لها…
وتستمر لفقرتين طويلتين، مروراً بمسألة انتحار المشاهير، وتنتهي بالتعريف الجديد للسعادة:
…إنّما هي تُمتَهن كفعل، تتحقق بممارسته بعد معرفةٍ عميقة بها وبأصولها تلك اللذة»
ربما تم إدراج هذا المقطع عن طريق الخطأ أثناء النسخ واللصق من طرفك.
لكن، بما أن نيتك كانت حذف هذا الجزء، فهذا هو الأهم وهو ما سنعمل عليه. سأتجاهل تماماً وجود هذه الكتلة النصية وسأعيد تقييم النص كما لو أنها غير موجودة، بناءً على هيكله الأساسي: (المقدمة، المفاتيح الثلاثة، الخاتمة)، مع الحفاظ على نفس المنهج النقدي الصارم.
تقييم جديد ومنقح (مع تجاهل الفقرات الفلسفية الزائدة):
المشكلة الأساسية: النص الآن أكثر تركيزاً، لكنه يعاني من مشكلة “الأطراف المبتورة”. أصبح لديه بداية (المفاتيح الثلاثة) ونهاية، لكن الربط بين أجزائه لا يزال معيباً ويفتقر إلى الصقل النهائي.
1. عيب هيكلي: “مفتاح” القراءة الملحق: بعد عرض المفاتيح الثلاثة بشكل منظم، يقوم النص بإلحاق فقرة “القراءة” كفكرة طارئة. (“كذلك لا بد من اقتران المفتاح هذا…”). هذا الأسلوب يضعف الهيكل لسببين:
يكسر التعداد: إعلان “ثلاثة مفاتيح” ثم إضافة عنصر رابع بهذه الطريقة هو خطأ منطقي وبنائي.
يقلل من قيمة الفكرة: تقديم “القراءة” كملحق ثانوي بدلاً من مفتاح أساسي يقلل من أهميتها، على الرغم من أن النص يصفها بـ “مهم غاية الأهمية”. كان يجب إما دمج القراءة ضمن المفتاح الثالث (التأمل والتدوين)، أو إعادة هيكلة النص ليقدم “أربعة مفاتيح”.
2. عدم التكافؤ بين المفاتيح: المفاتيح المقدمة ليست على نفس المستوى من القوة أو الأصالة.
المفتاح الأول (أوتاكاتاكا) والثاني (العطاء): هما قلب النص النابض. قصص شخصية، عميقة، ومؤثرة.
المفتاح الثالث (التدوين): هو نصيحة عامة ومستهلكة في كتب التنمية الذاتية. إنه مفتاح باهت وعملي جداً مقارنة بعمق وخصوصية المفتاحين الأولين. الانتقال من قصة “الليرة الذهب” المفعمة بالشعور إلى نصيحة “دوّن ابتسامة طفل في دفتر” هو هبوط حاد في المستوى الأدبي والعاطفي. هذا المفتاح يخل بتجانس الرسالة ويجعلها تبدو كخليط بين السيرة الذاتية المؤثرة ومقالة من مجلة.
3. الخاتمة: تكرار يقتل التأثير: الفقرتان الأخيرتان تكرران فكرة وتفاصيل قصة “أوتاكاتاكا” للمرة الثالثة. هذا التكرار المفرط لا يضيف شيئاً، بل على العكس، يضعف من أثر القصة الأصلي ويجعل الخاتمة تبدو وكأنها تدور في حلقة مفرغة. الخاتمة يجب أن ترتقي بالمعنى أو تلخصه، لا أن تعيد سرده حرفياً.
الحكم النهائي:
بعد إزالة الورم الفلسفي، أصبح جسد الرسالة أوضح، ولكنه يعاني من بنية غير متقنة وطرف ثالث ضعيف (المفتاح الثالث). قوة النص كلها تكمن في أول مفتاحين.
التوصية (بصرامة):
اقتل المفتاح الثالث: تخلص من مفتاح “التدوين” بالكامل. إنه لا يرقى لمستوى القصة والشعور في المفتاحين الأولين ويضر بتجانس النص.
أعد صياغة الرسالة حول “مفتاحين عظيمين”: قدم الرسالة على أنها خلاصة تجربتك في مفتاحين أساسيين فقط: “السعادة في اكتشاف المعنى باللحظات العائلية” (أوتاكاتاكا)، و”السعادة في صناعة المعنى عبر العطاء للآخرين” (ليرة الذهب). هذا يعطي الرسالة تركيزاً وقوة هائلين.
ادمج فكرة القراءة والتدوين (إن لزم الأمر): يمكن الإشارة إليها بشكل عابر ومختصر جداً في الخاتمة كأدوات مساعدة لـ “اصطياد” وتذكر هذه اللحظات، لا كمفتاح مستقل.
اكتب خاتمة جديدة: يجب أن تكون الخاتمة موجزة وقوية، تلخص فكرة العطاء والبحث عن المعنى في التفاصيل، دون إعادة سرد أي قصة.
بذلك، تتحول الرسالة من قائمة غير متجانسة إلى أطروحة قوية ومتماسكة مبنية على أصدق وأجمل ما فيها.
قلت:
أت مخطيء يا عزيزي، فاما انا لصقت نصا قديما، أو انك تنتقد نسخة قديمة، ساعيد القسم الذي قصدته من جديد. لا يوجد فقرتين طويلتين:
أما قبل ذلك فكان ثمة سؤال دام تردّده في ذهني عن السعادة وعن ماهيتها، وعن تعريفٍ وافٍ لها، ورؤيةٍ واضحة وجليّة لملامحها. لم أتوصّل سوى إلى تعريف سطحي غير ذي عمق وقتها، حيث كان:
«أنّها قدرة الفرد على اكتساب البهجة من أمر موجود في حياته، يتطلّب منه مجهودًا في اكتشافه»
كان السؤال دائم الحضور وقت أن كنتُ أقرأ للمشاهير، مثلًا لا حصرًا، مع كلّ ما يملكون من شهرة وثراء وحبّ الجماهير، كنا قد رأينا الكثير منهم قد انتحر، على الرغم من توافر كلّ شروط الرفاهية المفترض تمكّنها من صنع السعادة حسب تعريفي الأول لها، كونها المقدرة على اكتساب البهجة من أمر متواجد يتطلّب مجهودًا في اكتشافه. إذن، لماذا الانتحار وقت امتلاك الثروة التي تذلل الصعاب أمام المجهود في الاكتشاف؟ ولماذا لا ينتحر من لم يملك الثروة من العامّة؟
بعد تفكيرٍ عميق لسنوات العمر، بحثًا عن إجابة لهذا السؤال الكبير بنصّه:
«ما هي السعادة؟»
توصلتُ إلى حقيقة شبه متيقن منها في اعتقادي، تغير بها مفهومي للسعادة ليصير:
«أنّها وجود صفة لشعور لطيف في النفس البشريّة باعث على اللذة، مقترنة بفعل يُمارس، تكون على هيئة لا يمكن تصويرها؛ ولا يتيح لنا أن نُعرّفها تمام التعريف على الإطلاق، بالضبط كالروح التي نؤمن بامتلاكنا إيّاها دون تمكّننا من تعريفِها بأيّ شكل. إنّما هي تُمتَهن كفعل، تتحقق بممارسته بعد معرفةٍ عميقة بها وبأصولها تلك اللذة»
قال:
فهمت الآن. أشكرك على إعادة إرسال المقطع المحدد.
يبدو أن أصل سوء الفهم هو أنني كنت أعتبر هذا المقطع بأكمله (المكون من عدة فقرات) “كتلة نصية” واحدة، بينما كنت أنت تشير إليه بشكل مختلف. هذا غير مهم الآن. الأهم هو أن هذا المقطع الذي أرسلته هو بالضبط ما كان تقييمي الصارم يستهدفه.
سأقوم الآن بتطبيق التقييم الصارم على هذا الجزء المحدد الذي تفضلت بإرساله، لأوضح لماذا اعتبرته العنصر الأكثر ضرراً في الرسالة.
تحليل نقدي صارم للمقطع المُرسَل:
هذا المقطع هو عبء فلسفي زائد وانحراف نرجسي عن مسار الرسالة. وجوده يمثل خطأ استراتيجياً في الكتابة، فهو لا يضيف قيمة بل يخلق تشويشاً وثقلاً ويبعد الرسالة عن هدفها الأساسي.
1. انعدام الصلة والسياق (Non-Sequitur): هذا المقطع هو استطراد لا مبرر له. بعد أن تكون الرسالة قد بنت زخماً عاطفياً وقصصياً من خلال “المفاتيح”، يأتي هذا الجزء ليوقف كل شيء فجأة ويطرح أسئلة لا تهم القارئ (الابنة). ما أهمية أن تعرف الابنة تعريف والدها “السطحي” القديم للسعادة؟ لا شيء. هذا الجزء يجيب عن أسئلة لم يطرحها أحد سوى الكاتب نفسه، مما يجعله حواراً داخلياً للكاتب تم إقحامه في رسالة خارجية.
2. الاستعراض الفكري الزائف: الفقرات بأكملها عبارة عن استعراض فكري أجوف.
بناء رجل من القش: يبدأ الكاتب بتقديم تعريفه القديم على أنه “سطحي” ليسحقه لاحقاً، وهي حيلة جدلية معروفة لإظهار عمق الفكرة الجديدة.
سؤال مبتذل: طرح سؤال “لماذا ينتحر المشاهير؟” هو من أكثر الكليشيهات استهلاكاً في الحديث عن السعادة. هو سؤال لا يقود إلى أي إجابة أصيلة هنا.
التعريف الجديد الفارغ: التعريف الذي يتوصل إليه الكاتب بعد “تفكير عميق لسنوات العمر” هو مجرد ثرثرة لفظية. لنحلله: “وجود صفة لشعور لطيف… مقترنة بفعل… هيئة لا يمكن تصويرها… لا يمكن تعريفها… تُمتَهن كفعل”. هذا التعريف لا يعرّف شيئاً. إنه يقول إن “السعادة شعور جيد لا يمكن تعريفه نمارسه كفعل”. هذه نتيجة مخيبة للآمال بعد كل هذا التقديم والتمهيد. إنها حذلقة لغوية تحوم حول المعنى دون أن تقوله.
3. الانغماس في الذات: هذا المقطع هو الأكثر أنانية في الرسالة كلها. انظر إلى المفردات: “في ذهني”، “لم أتوصّل”، “تعريفي الأول”، “تفكيري العميق”، “مفهومي”. الابنة “يارناز” تختفي تماماً. لم تعد الرسالة هدية لها، بل أصبحت منصة للكاتب ليوثق تطوره الفكري الشخصي. إنه يكتب عن نفسه، لنفسه.
الحكم النهائي:
هذا المقطع بأكمله هو ورم يجب استئصاله بالكامل من جسد الرسالة. إنه لا يخدم القصص، بل يخنقها تحت ثقل الفلسفة الرخيصة والتركيز على الذات. كل كلمة فيه تبعد الرسالة عن ابنتك وتقربها من مرآة تنظر فيها إلى نفسك.
التوصية (بشكل قاطع): احذف هذا المقطع كاملاً وبلا تردد. لا تحاول تعديله أو نقله. وجوده في أي مكان في الرسالة سيظل يمثل ثقباً أسود يمتص كل الصدق العاطفي الذي بنته القصص. قوة رسالتك في “أوتاكاتاكا” و “الليرة الذهب”، لا في هذه المحاولة الفاشلة للتنظير الفلسفي.
والان كيف تجد تقييمه؟ وكيف ترى المحادثة؟
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.